طرحنا في مقالات سابقة ما أعتبرناه حلا ونموذجا ديمقراطيا يجب أن يتم تبنيه لمواجهة أي غموض في مختلف المشاريع المطروحة في الساحة اليوم، ومنها ما يعتقده البعض “دولة مدنية” وتعديلات دستورية تستهدف تعميق ما يعتبرونه إصلاحا عميقا للدولة، وقد أبرزنا في مقالات سابقة بأن ذلك مجرد شعارات غامضة لذر الرماد في العيون، وأن الجزائر اليوم هي في الطريق إلى سيطرة الأوليغارشيات، وخاصة المالية منها على دواليب الدولة تحت غطاء هذه الشعارات الرنانة، لكن هل يكفي التنبيه إلى ذلك أم يجب علينا طرح بديل عملي يعتنقه الشعب كله، ويضمن به بأنه سيخدم مصالحه، ومنها العدالة الإجتماعية التي قلنا أنها يجب أن تكون مرتبطة بأي تغيير ديمقراطي في بلادنا.
فالسؤال المطروح اليوم هو: ماهو المشروع الديمقراطي الذي يصلح لنا نحن الجزائريين اليوم، ويحقق فعلا طموحات شعبنا، ولا يعطي أي فرصة لأي كان للتراجع عن المكاسب الديمقراطية مستغلا عدم إستفادة الشعب كله من خيرات البلاد والتوزيع العادل للثروة، ولتحقيق النجاح الفعلي لديمقرايتنا، يجب أن تكون في خدمة الأمة كلها بكل أطيافها وشرائحها، كما يجب أن ترتبط بالطبقات المحرومة، وتكفل العدالة الإجتماعية، مما يتطلب إعادة النظر في كل ميكانيزمات النظام السياسي السائد، وأيضا ليس بنقل النموذج الأوروبي، بل بنظام ديمقراطي بديل خاص بمدى إرتباط شعبنا وتعلقه بالعدالة الإجتماعية، فماهي المعالم الكبرى لهذا النموذج البديل الذي أشرنا إليه في مقالات سابقة، وطلب منا الكثير توضيحه؟
قبل الحديث عن المعالم الكبرى للنظام الديمقراطي البديل علينا أن نضع في الحسبان أن التوازن والفصل بين كل السلطات والمؤسسات وتحديد صلاحياتها بدقة يعد عاملا رئيسيا في قيام دولة عادلة، فالدولة تشبه الكون أين كل طرف داخل الدولة والمجتمع يراقب الآخر، ويدفعه إلى العمل الجدي، ويمنعه من الطغيان، فلاتكون الدولة عادلة إلا إذا كانت على شاكلة النظام الكوني أين كل عنصر من عناصره كالأقمار والشمس والكواكب وغيرها تجذب بعضها بعضا مما يحفظ توازنه وعدم إختلاله.
فبشأن السلطة التنفيذية فإنها ليست ديمقراطية الإكتفاء بإنتخاب رئيس دولة أو نواب ثم نفوض لهم الأمر في كل شيء، فنترك للرئيس المنتخب حقه الكامل في اختيار وزرائه ومساعديه، لأن عملية كهذه هي عملية انتخاب دكتاتور، فالحل الأفضل هو انتخاب كل طاقم السلطة التنفيذية سواء على المستوى المركزي أو المحلي، ولهذا فعلى كل حزب سياسي أو تحالف أحزاب أو مواطنين تقديم قوائم حكومية مختلفة ينتخبها الشعب بالأغلبية المطلقة في دورين، فيكون الشعب قد اختار كل الطاقم الحكومي الذي يسير الحياة العامة لمدة معينة وببرنامج معين له أهداف محددة، وهو مايدفع الرئيس المرشح على إختيار الأفضل والأكفأ ضمن طاقمه الحكومي المرشح لكسب الأصوات، وتتم محاسبة السلطة التنفيذية عن مدى تطبيق برنامجها وتحقيق أهدافها في نهاية العهدة من طرف أجهزة خاصة، فالانتخاب عملية عقد بين الناخب والمنتخب، وإلا تعرض الطاقم المنتخب وحزبه لعقوبة صارمة مثل إقصائه نهائيا من ممارسة العمل السياسي لأنه نقض العهد، إلا إذا قدم أسبابا موضوعية لعجزه في تحقيق وعوده، وبهذا ستكون البرامج السياسية واقعية وعلمية بدل الديماغوجية والكذب والميكيافيلية كوسائل للوصول إلى السلطة، لكن كيف نحمي الشعب من تحول السلطة التنفيذية إلى خادمة لمصالح مالية إستغلالية خاصة؟ وكيف نضمن رقابة شعبية صارمة على أعمالها وممارساتها؟ وكيف نوفق بين الحفاظ على فعالية السلطة التنفيذية وإبقائها في نفس الوقت في خدمة مصالح كل شرائح المجتمع دون استثناء لا خدمة طبقة أو فئة أو شريحة معينة تحت غطاء القانون أو منطق ومصلحة الدولة وغيرها من الحجج والذرائع الواهية التي تستخدم لإبقاء الإستغلال والسيطرة؟.
قد أشرنا من قبل أن الحكومة أو السلطة التنفيذية بكامل أعضائها تنتخب مباشرة من طرف الشعب، مما يمنع أية ضغوطات على الرئيس المنتخب عند اختيار طاقمه الحكومي، وهو ما يجنبنا قيام حكومات إئتلافية التي لها آثارا سلبية بسبب صراعات أعضائها وعدم الإنسجام مما يعرقل عملها وفعاليتها، لكنها تكون تحت رقابة برلمان مشكل من ممثلي مختلف مكونات الأمة والشرائح الاجتماعية والمهنية كالأطباء والمهندسين والأساتذة ورجال الأعمال وغيرهم، بل وحتى البطالين إن وجدوا في المجتمع، ويتم الانتخاب على هؤلاء الممثلين مباشرة من طرف الذين يمثلونهم –حسب عددهم ونسبتهم في المجتمع-، وليس عن طريق المؤتمرات كما يحدث اليوم لممثلي مختلف النقابات التي تحول بعضها إلى متحالفة مع المال، بل أصبحت تلعب دور كبح العمال عن المطالبة بحقوقهم أو المتاجرة بهم لتحقيق امتيازات وراء أخرى، وبتعبير آخر تصبح الدوائر الإنتخابية ليست الولايات كما يقع اليوم، وليست قيادات النقابات السائدة الآن، بل كل شريحة إجتماعية تتحول على دائرة إنتخابية يتم بداخلها الإنتخاب الحر والنزيه على ممثليها.
وبهذا الشكل تتحقق الرقابة المباشرة من طرف ممثلي كل المجتمع دون استثناء أية شريحة منه على السلطة التنفيذية المنتخبة مثل أعضاء البرلمان، إلا أن قوة البرلمان تكمن في أنه يمثل كل الشعب أو المجتمع عكس الحكومة أو السلطة التنفيذية التي تمثل أغلبية مطلقة يمكن أن لا تتعدى في بعض الأحيان 51% من الشعب، مما يستدعي تقييد تصرفاتها بدقة، لأنه لا يمكن لـ 51% أن يفرض دكتاتورية على49% المتبقين، ولهذا فإن للبرلمان رأيا قويا في القوانين التي تقترحها الحكومة، ولممثلي كل شريحة اجتماعية أو مهنية حق الفيتو ضد أي مشروع قانون مرتبط بها أو يمس مصالحها مباشرة، حتى ولو صادق عليه كل ممثلي الشرائح الاجتماعية الأخرى، وفي حالة تناقض مصلحة الدولة مع مصلحة شريحة معينة من المجتمع أو وقع تناقض بين مصالح عدة شرائح اجتماعية حول مشروع قانون معين، فيمكن التفاوض بين الأطراف المختلفة والتنازل فيما بينها برضى كل الأطراف المتنازعة حول مشروع القانون.
ولعل يقول البعض إننا ركزنا على السلطة التشريعية، ففي الحقيقة كل مسارات المجتمع أو دولة وكل التحولات البطيئة أو السريعة وراءها قوانين ومراسيم تشريعية قد صدرت في وقت ما، ولهذا يجب رقابة شعبية صارمة على القوانين التي يجب أن تخدم مصالحها، كما يصبح البر لمان الذي يمثل كل المجتمع بالتوافق مع المؤسسات الأخرى هو الصانع للقرارات، ولايسمح أن تصنع في أي مؤسسة أخرى وفي غياب ممثلي الشعب عبر ممثلي كل شرائح المجتمع المنتخبة.
ولكي لا يتحول هؤلاء الممثلين إلى برجوازية تخدم مصالح خاصة، يمنع عليهم اكتساب أية امتيازات باستثناء الحصانة البرلمانية، مثلما يحدث اليوم في أغلب برلمانات العالم من خلال الأجور العالية، وأصبح الوصول إلى سدة البرلمان معناه اكتساب امتيازات بدل ربط مصالح عضو البرلمان بمصالح الشريحة الاجتماعية التي يمثلها مما يجعله أكثر استماتة في الدفاع عن مصالحها لأنه دفاع عن مصالحها الخاصة أيضا.
ونعتقد أن هذه الرقابة الشعبية التي تتم على المستويات المركزية والمحلية غير كافية إذ لم يقم المجتمع المدني المستقل بدوره كاملا، وكذلك السلطة الرابعة، والمتمثلة في الإعلام ونضيف لها رجال الفكر والفنون الذين يجب أن تكون ممثلة كلها في مؤسسة دستورية منتخبة، وبحصانة لكل هؤلاء لضمان سلطة الرأي العام وفضح كل ممارسة مناقضة للقانون بكل حرية، كما وضحنا ذلك في مقالتنا “تقديس الحريات مستمد من قداسة الله”.
البروفسور رابح لونيسي