إعادة هيكلة المخابرات في الجزائر -الأهداف والرهانات-

PLAY

حظيت إعادة الهيكلة الأخيرة للأجهزة الأمنية بإهتمام كبيرمن المتتبعين ووسائل الإعلام، كما يحظي كل ما يتعلق بالجيش والأجهزة الأمنية مثل بعض الإقالات أو الإستقالات الأخيرة بنفس الإهتمام أو أكثر، ويعوذ ذلك إلى الإعتقاد بوجود صراعات في هرم السلطة خاصة بين الرئاسة والدياراس بقيادة الفريق توفيق، كما يأمل آخرون بأنه من الممكن أن يؤدي أي تغيير أو إعادة هيكلة إلى تكريس لدولة القانون، ففي الحقيقة، وكما اشرنا في إحدى مقالاتنا السابقة، فالنظام الجزائري منذ بروز الباءات الثلاث يتميز بالصراع  بين المتحكمين في الأجهزة والمؤسسات المركزية للدولة، بل هذا الصراع والحفاظ على التوازن بين هذه المراكز هو الذي يميز النظام الجزائري، ففي الجزائر عادة ماكانت السلطة والسلطة المضادة بداخل النظام نفسه، وليس بداخل الدولة بأكملها كما يحدث في الديمقراطيات الكبرى، وما يحدث خارج النظام وهذه المراكز هو مجرد إنعكاس لهذا الصراع في الهرم في أغلب الأحيان، ولا يمكن لنا العودة تاريخيا إلى هذه المسألة التي تناولنا بشكل كبير وموسع في كتابينا “الجزائر في دوامة الصراع بين العسكريين والسياسيين” و”رؤساء الجزائر في ميزان التاريخ”.

كان جهاز المخابرات محل صراع  دائم، فكل رئيس حريص على الحفاظ على صلاحياته كاملة، ولتحييد خصومه من داخل النظام يعمل من أجل السيطرة عليه، فكان بن بلة أول رئيس عانى من هذا الجهاز الذي كان تحت سيطرة وزير دفاعه هواري بومدين الذي أنتقص كثيرا من نفوذ بن بلة، فحاول الأخير التخلص من ثقله ، لكنه فشل في السيطرة على الجيش وجهاز المخابرات، فسعى إلى إنشاء قوة عسكرية موازية للجيش الوطني الشعبي وتابعة لحزب جبهة التحرير الوطني يواجه بها بومدين المسيطر على مؤسسة الجيش، وأراد بن بلة من هذه القوة العسكرية الجديدة أن تكون على شكل مليشيات شعبية بدعوى الدفاع عن الثورة الإشتراكية ضد أعدائها الداخليين والخارجيين، وكلف محمود قنز بقيادتها، ولم يكن يعلم بن بلة أن هذا الأخير كان مقربا من بومدين، كما سعى بن بلة أيضا إلى إنشاء مخابرات موازية لمخابرات بومدين، وذلك بدعم مصري، فمعروف عن بن بلة إستعانته بمستشارين مصريين، وتبرز هذه الإستعانة خاصة في مسائل الأمن، ويعود ذلك إلى علاقاته الوطيدة بمسؤول المخابرات المصرية فتحي الديب أثناء الثورة، ووصل به الأمر إلى حد الإستعانة بالمصريين لبناء جهاز مخابرات تابع له ومواز لجهاز مخابرات الجيش الذي كان تابعا لبومدين، وهو ما أعتبره البعض، ومنهم بومدين، بأن ذلك يشكل خطرا كبيرا على أمن الدولة، ويحول الجزائر مجرد تابع لمصر في المجال الأمني.

لكن باءت كل محاولات بن بلة بالفشل، وكانت أحد الأسباب التي ضغطت على بومدين من أجل الإسراع للقيام بإنقلاب19جوان1965، ويعد بومدين الرئيس الوحيد الذي أحكم سيطرته على كل الجوانب السياسية والعسكرية، وهو ما ضمن إستقرارا نسبيا بين مختلف الأجهزة في الدولة، ويبدو أنه النموذج الذي أراد بوتفليقة إعادة إحيائه من خلال كل مناوراته، لكن كان يجد معارضة قوية خاصة من جهاز الدياراس في عهد الفريق توفيق، فقد فكر في بدايات حكمه  في إنشاء جهاز أمني أعلى يضم كل الأجهزة الأمنية بقيادة المقرب إليه زرهوني آنذاك، لكن بقي مشروعا  في ذهنه فقط دون القدرة على تفعيله إلا بعد الإقالات والإستقالات الأخيرة في الجيش والمخابرات، وما إنشاء مديرية المصالح الأمنية بقيادة طرطاق إلا تفعيلا نسبيا، وبشكل آخر لنفس الفكرة القديمة .

فقد عرفت الأجهزة الأمنية دائما إعادة هيكلة حسب المستجدات وتطورات الظروف كي تعطى لها فعالية أكثر، وذلك بداية من الثورة عندما ألحقت وزارة التسليح إلى وزارة الإتصالات العامة بقيادة بوصوف بسبب فشل الكثير من محاولات تسليح الثورة من قبل بسبب ضعف عملية تأمين وصولها لإنعدام التنسيق بين وزارتي التسليح و المخابرات التي كانت تسمى ب”الإتصالات العامة”.

وأعيدت الهيكلة بعد 1962 حسب مقتضيات بناء الدولة والدفاع عن النظام، ليأخذ جهاز المخابرات تسمية “جهازالأمن العسكري” الذي بقي تحت نفوذ قاصدي مرباح لمدة طويلة، فلعب دورا كبيرا وأساسيا في ضمان إستمرارية النظام ونقل السلطة لبن جديد بعد وفاة بومدين في1978.

لقد اعتمد بومدين كثيرا على جهاز الأمن العسكري، الذي كان تحت مسؤولية قاصدي مرباح، ويبدو أنه كان الجهاز الأكثر فعالية في التأثير في صنع القرارات، ويقول بلعيد عبد السلام أن بومدين كان يثق في المعلومات الواردة عليه من جهاز الأمن العسكري ثقة عمياء، مما أعطى لهذا الجهاز تأثيرا كبيرا على الكثير من القرارات، ويذهب أبعد من ذلك، فيقول بأنهم كانوا يغالطونه في بعض الأحيان لتحقيق أهداف أو مصالح معينة، ويضيف بأن هذا الجهاز كان يسيطر على كل أجهزة الدولة ومؤسساتها، فعناصره منتشرة في كل مكان .

إلا أننا نعتقد أن المبالغة في تضخيم إنتشار عناصر جهاز الأمن العسكري أثناء فترة حكم بومدين، تدخل في إطار دعم نفوذ بومدين وسلطته، وذلك بفرض نوع من الخوف والرهبة على كل من تسول له نفسه بالتحرك ضده، فهو أمر يشبه إلى حد بعيد خوف المؤمن من الله لأنه موجود في كل مكان، فيراقب تحركاته، ونعتقد أن هذه المبالغة هي أحدى الأساليب النفسية الفعالة التي توصلت إليها الأنظمة الشمولية للحفاظ على سلطتها بإيهام الشعب أن أجهزة السلطة تراقب كل شيء، مما يغرس الشك حول كل فرد، وأن السلطان موجود في كل مكان، ويبدو أنها من الأساليب التي تستخدم مع الشعوب التي لا تزال في مرحلتها الطفولية حسب تعبير مالك بن نبي، فيخوفها السلطان مثلما تخوف الأم إبنها من الغول.

وعندما جاء بن جديد أراد التخلص من نفوذ مرباح ورجاله، فقام بذلك تحت غطاء إعادة الهيكلة، فعوض مرباح مؤقتا بزرهوني العارف بالجهاز لضمان هيكلة سلسة مثل طرطاق اليوم أيضا، ليعوض زرهوني بعد أقل من سنة، فهل سيكون مصير طرطاق مثل مصير زرهوني في بداية الثمانينيات؟.

قام بن جديد بإعادة هيكلة الجيش، ومنها جهاز الأمن العسكري الذي قسمه إلى جهازين، أحدهما تابع للرئاسة وآخر لوزارة الدفاع الوطني بعد ما كان كل الجهاز في يد رجل واحد هو قاصدي مرباح في عهد بومدين، ويتمثل هذين الجهازين الجديدين في المديرية العامة للوقاية والأمن تابع للرئاسة تحت إدارة الجنرال مجدوب لكحل عياط، وتهتم بالشؤون السياسية في الداخل والخارج، أما الجهاز الآخر هو مديرية أمن الجيش تحت إدارة الجنرال محمد بتشين، ويتبع وزارة الدفاع الوطني، لكن اختلف كل من بتشين وعياط حول مشروع الإصلاحات التي أرادها بن جديد، فقد وقف لكحل عياط إلى جانب المحافظين، مما دفع بن جديد إلى إقالته مباشرة بعد أحداث 5 أكتوبر وتعويضه ببتشين، في الوقت الذي صعد فيه الجنرال محمد مدين المعروف بتوفيق إلى إدارة مديرية أمن الجيش قبل أن يتولى المديرية العامة للوقاية والأمن عام 1990، ثم يتولى رئاسة  جهاز المخابرات الذي أخذ تسمية جديدة هي “مديرية الإستعلامات والأمن” المعروف ب”الدياراس” الذي بقي على رأسه مدة ربع قرن، والذي أصبح أكثر تأثيرا ونفوذا بسبب الظروف الأمنية للتسعينيات

وقد اختلفت التفسيرات لهذه السياسة التي اتبعها بن جديد تجاه جهاز الأمن العسكري القوي جدا في عهد بومدين، ففسرها البعض ، بأنها رغبة من بن جديد لتخفيف المراقبة على المواطن وإعطائه الحرية في التعبير والتنفيس عن ذاته، أي بعبارة أخرى إنهاء دور ما يسميه البعض ب”البوليس السياسي”، الذي كان يقوم به جهاز الأمن العسكري في عهد بومدين، ويدعم هؤلاء هذا التفسير بالتوجهات اللبيرالية لبن جديد التي ترفض المساس بالحريات وحقوق الإنسان، ويقولون أنه لولا المحافظون، لأمكن له دفع البلاد نحو الديمقراطية قبل أكتوبر 1988، لكن هناك طرح آخر يقول أن هدف بن جديد من إعادة هيكلة جهاز الأمن العسكري هو التخلص من أتباع الرجل القوي على هذا الجهاز في عهد بومدين، وهو قاصدي مرباح، وهو تفسير مقبول، إذا عرفنا أن من صفات بن جديد هو الخوف من الرجال الأقوياء حوله، ولذلك يعمل دائما على إضعافهم بشكل أو بآخر، وفسر آخرون إنشائه لعدة أجهزة أمنية إلى سياسة بن جديد المعتمدة على سياسة فرق تسد بين مختلف هذه الأجهزة، كي يتسنى له التحكم أكثر وعدم القيام بإنقلاب ضده، ويحمل أصحاب هذا الطرح بن جديد مسؤولية ما وقع في البلاد في بداية التسعينيات، لأنه أضعف بسياسته هذه جهاز الأمن العسكري، مما جعل البلاد عرضة لإختراق مخابرات قوى أجنبية معادية وتشكيل قوى معارضة خطيرة بعيدة عن أعين الدولة وأجهزتها الأمنية .

لكن أزداد نفوذ جهاز المخابرات الذي اصبح يسمى ب”الدياراس” في عهد إرهاب التسعينيات، فقد لعب دورا كبيرا في مكافحته، ويبرر البعض مشروع إعادة الهيكلة الجديدة على حساب الدياراس القديم بتناقض الإرهاب في الداخل وظهور أخطار أمنية جديدة على الحدود، مما يتطلب إعادة الهيكلة لمواجهة الظروف الجديدة، لكن لا يمكن لنا أيضا عزل ذلك عن الصراعات حول النفوذ بين مختلف أطراف السلطة، ولم يكن سردنا لما كان وقع تاريخيا من صراع حول جهاز المخابرات إلا لفهم ما يحدث اليوم لأنها متشابهة نسبيا، وتدخل في إطار قواعد سير النظام في الجزائر منذ1962.

وما نستغربه هو حديث البعض من أن إنشاء مديرية المصالح الأمنية اليوم بقيادة طرطاق هو سير نحوالدولة المدنية وإحترام الحريات، وهي نفس التبريرات التي سردت عندما أعاد بن جديد هيكلة جهاز الأمن العسكري، فنحن لا ننفي من أن هذه الهيكلة الجديدة، يمكن أن تنسق أكثر بين مختلف الأجهزة الأمنية والتخلص من أي صراعات فيما بينها مستقبلا كما يقع في الكثير من دول العالم عندما تكون مستقلة بعضها عن بعض، ولهذا ستكون لها فعالية أكبر في المجال الأمني والمخابراتي، كما يبدو ظاهريا أنها مستقلة عن وزارة الدفاع، وهو مايبعد الجيش عن كل الصراعات السياسية، ويدخل في الإحترافية والتكفل فقط بمهامه العسكرية البحتة، لأنه عادة ماترتبط السياسات الأمنية بالسياسة الداخلية في الدول الضعيفة ديمقراطيا، وأن إبعاد مديرية المصالح الأمنية عن الجيش يجعل هذا الأخير بعيد عن أي نقد موجه لأي سياسات كانت، خاصة الأمنية منها.

كما نضع في حسابنا ان إبعاد ضباط لعبوا دورا في التسعينيات، إضافة إلى إلغاء وإستبدال تسميات الأجهزة الأمنية والعسكرية التي أرتبطت بهم هي عملية نفسية لكسب تعاطف أنصار الفيس المنحل مع مجموعة الرئيس التي تظهر كأنها خلصت البلاد من ضباط وأجهزة يرون أنهم كانوا كانوا وراء أحداث  التسعينيات، أي هي عملية يغلب عليها أيضا الطابع السياسوي، خاصة وأنه عادة مايستخدم هذا الحزب لإجهاض أي تحول ديمقراطي كما وقع بعد 1988 ومع إصلاحات حمروش.

أما بشان ضمان الديمقراطية والحريات وعدم تدخل المخابرات في الحياة السياسية والعامة،  فأعتقد أنها مبالغ فيها، وهدفها إيجاد مبررات لمشروع إعادة الهيكلة لا أكثر ولا أقل، لأن ما لايعلمه هؤلاء أن ضمان الحريات في النظام الحالي  غير متعلقة  بذلك، فلم تكن هذه التدخلات سواء اليوم أو في الماضي بسبب قوة هؤلاء المتدخلين حسب مايعتقد الكثير، بل يعود إلى ضعف الأحزاب السياسية وقياداتها وعدم حرص المجتمع المدني على إستقلاليته، وينطبق نفس الأمر على الإعلام، فالحريات يتم الدفاع عنها بالتضامن والإصرار عليها ورفض الخضوع لأي ضغوطات مهما كانت سواء كانت ترهيبية أو ترغيبية كشراء الذمم بالريوع، فالضغوط يمكن أن تأتي من جهاز المخابرات أو قوى أخرى كالرئاسة وأصحاب المال وغيرهم التي تمتلك كلها أدوات الضغط، ولو أختلفت من طرف إلى آخر، فالحريات والديمقراطية لايعطيها أحد، بل تفرض من الديمقراطيين ذاتهم، وبوجود مسؤولين ذوي ثقافة ديمقراطية في أجهزة السلطة، فالديمقراطية لاعلاقة لها بعسكري أو غير عسكري، فيمكن أن نجد عسكريين ذوي ثقافة ديمقراطية، ونجد مدنيين ذوي ثقافة أحادية ديكتاتورية، فهي مسألة ثقافة وذهنية وتنظيم التي تتناغم مع نظام وميكانيزمات فعالة  لضمان الحريات والحد من التعسف.

 

                                        البروفسور رابح لونيسي