الاستثمار الأجنبي في قطاع السيارات
الاستثمار الأجنبي في قطاع السيارات
“استثمار حقيقي أم مجرد تثمين لرأس المال الأجنبي”
في عام 1966 كان أغلب إنتاج شركة (رونو) لإنتاج السيارات يتم في فرنسا، إلا أنه ما بين 1970-1977، تم هناك فتح مصانع للإنتاج في كل من المكسيك، المملكة المتحدة، اسبانيا، البرتغال و بلجيكا. و في عام 1999 تم فتح مصانع جديدة في كل من تركيا، البرازيل و الأرجنتين. و تحتل الشركة حاليا المركز الرابع في سلم المنتجين للسيارات في العالم، و خاصة بعد الاستحواذ على شركة Dacia (في رومانيا) و Samsung (كوريا). حاليا لم يبقى سوى %20 من حجم الإنتاج الذي يتم في فرنسا، أي أن %80 من مجموع الإنتاج يتم خارج الدولة الأم. و لقد ارتفعت العديد من الأصوات من النقابات و الأحزاب السياسية المعارضة لعمليات إعادة التوطين التي تقوم بها شركات إنتاج السيارات الفرنسية في الخارج. حيث تشير الأرقام بقيام مصنعو السيارات في فرنسا بإعادة توطين جزء معتبر من الإنتاج منذ بداية سنوات 2000، حيث أصبحت فرنسا لا تنتج سوى %31 من الإنتاج العالمي، بينما هذه النسبة كانت تقدر بحوالي %50 في عام 2005.
لماذا اختارت الشركات العالمية مثل شركة (رونو) التوجه العالمي و ذلك من خلال إعادة توطين نشاطها في الخارج؟. هناك العديد من التفسيرات التي أشارت إليها النظريات الاقتصادية، و تختلف هذه التبريرات من شركة إلى أخرى و من قطاع صناعي إلى آخر وحسب الأهداف التي تريد الشركة تحقيقها في الدولة المضيفة. فقد تختار الشركات إعادة التوطين من أجل الاستجابة إلى احتياجات جديدة على مستوى الأسواق الجديدة، أو من اجل الاستحواذ على أسواق جديدة، أو تنويع المنافذ، رفع رقم أعمالها و تخفيض تكاليف الإنتاج. و لكن القاعدة العامة هي أن إعادة التوطين يمنح هذه الشركات فرصا جديدة متعلقة بمنافذ جديدة للدخول إلى الأسواق المحلية، كما أنه يساعد الشركات من الاستفادة من منظومة تشريعية أكثر ملائمة للاستثمارات الأجنبية المباشرة (من ناحية الجباية و قوانين العمل و نوعية البنية التحتية). و يتم الاستفادة من هذه المزايا من خلال فتح وحدات إنتاجية بالقرب من أماكن التسويق لتحقيق العديد من الأهداف (تخفيض التكاليف من اليد العاملة، تخفيض التكاليف المتعلقة بالإمدادات اللوجيستية و النقل و الاستجابة لاحتياجات المستهلكين المحليين).
و عندما نطلع على إستراتيجية هذه الشركات، فإننا نرى أنها تبحث على تحقيق الأهداف التالية: أ)إعادة توطين الإنتاج من خلال إستراتيجية البحث عن التكلفة المنخفضة كحالة مصنع (رونو) بالمغرب. ب)اختيار تشكيلة السيارات المكيفة مع احتياجات الزبائن. ج)التدويل القوي، د) شراكة مع منتجين آخرين. و تتباين أهمية هذه المحددات التي تدفع الشركات متعددة الجنسيات إلى الانتشار الدولي، فعندما يتواجد المصنعون للسيارات في الصين أو البرازيل، فإنهم يرغبون في إيجاد موطأ قدم لتزويد و تموين هذه الأسواق بالسيارات مثلا، أما التواجد في أوروبا الشرقية أو شمال إفريقيا فانه يمثل وسيلة لتموين أسواق أوروبا الغربية بسيارات ذات تكلفة اقل.
و لقد قامت شركة (رونو) مؤخرا بفتح قطب صناعي جديد في منطقة طنجة بالمغرب، بعدما وصل مصنع رومانيا للمجموعة إلى طاقته الإنتاجية القصوى و تحتاج المجموعة إلى طاقات إنتاجية إضافية. و لهذا ترى شركة (رونو) أن المصنع الجديد في المغرب سيكون استراتيجيا بالنسبة للتوجه الإقليمي للشركة. و تهدف الشركة من فتح هذا المصنع إلى تخصيص حوالي %90 من السيارات المنتجة إلى التصدير. التكلفة المتواضعة لهذه السيارات ستكون ممكنة، و خاصة عن طريق الأجر الشهري لليد العاملة المغربية التي تساوي 240 € مما يمثل ممارسة للإغراق الاجتماعي من طرف الشركة (يتحصل العامل الفرنسي على 1800 € شهريا بعد 10 سنوات من الخبرة). كما أن اختيار المغرب كقطب إنتاجي للشركة يعود إلى دور السياسات العمومية في توفير بيئة الاستثمار الأجنبي المباشر الصناعي، حيث منحت المغرب إعفاء ضريبيا لمدة 5 سنوات.
و في ظل الأزمة الاقتصاد العالمية، أصبحت الجزائر تمثل من وجهة نظر العديد من صانعي السيارات العالمية و خاصة الأوروبية سوقا كامنا و أساسيا لتعويض انخفاض المبيعات المسجلة في أوروبا و عبر العالم، حيث عرفت شركة (رونو) انخفاضا في رقم أعمالها قدر بحوالي %13.3 في عام 2012 بالمقارنة مع العام الماضي 2011 ( أي 8.447 مليون يورو للثلاثي الثالث من عام 2012. و يمثل هذا الانخفاض مصدر تخوف كبير لدى هذه الشركة، التي عرفت كذلك انخفاضا في حجم مبيعاتها بحوالي %5.8 مقارنة بالثلاثي الثالث من عام 2011 إلى 596 064.
و إذا رجعنا إلى حالة الجزائر فان المركز الوطني للمعلومات الإحصائية يشير إلى أنها استوردت عددا كبيرا من السيارات بلغت قيمتها الإجمالية 5 مليارات دولار أمريكي أثناء 9 شهور الأخيرة من عام 2012، و بهذا ارتفعت فاتورة الاستيراد للسيارات بحوالي %37.77 مقارنة بعام 2011 (أي 367.7 مليار دينار مقابل 266.9 مليار دينار جزائري أثناء 9 أشهر الأولى من عام 2011) حسب نفس المصدر أي (CNIS). و لقد بلغ حجم الواردات من السيارات 418665 سيارة أثناء 9 شهور الأخيرة من عام 2012 مقابل 298816 في نفي الفترة من عام 2011، أي بارتفاع مقداره %40.1 حسب المركز الوطني للمعلومات الإحصائية.
و تأتي السيارات الفرنسية حسب تصنيف الدول المصدرة للسيارات إلى الجزائر على رأس قائمة الترتيب، فأثناء 9 شهور الأولى من عام 2012، فان مجموعة Renault باعت حوالي 93034 سيارة بمبلغ 73.94 مليار دينار جزائري مقابل 57918 وحدة (42.10 مليار جزائري) في نفس الفترة من عام 2011، أي بزيادة مقدارها %60.6 من حيث عدد الوحدات المباعة. و يفسر هذا الارتفاع الكبير إلى ارتفاع القدرة الشرائية للمواطنين في السنوات الأخيرة و خاصة مع الارتفاعات المتتالية لأجور العديد من القطاعات، و خاصة في القطاع العمومي. و بهذا يعتبر السوق الجزائري هو السوق الأول لشركة (رونو) في إفريقيا و العالم العربي.
و ياتي فتح مصنع آخر بالجزائر من أجل تموين السوق المحلي، إذ أكد المدير العام لهذه الشركة في العديد من المناسبات رغبة الشركة في إنشاء مصنع لإنتاج السيارات في الجزائر و لا يجب أن نترك أي منافس آخر يقوم بذلك، و هذا هو مصدر الخلاف بين الطرفين المتفاوضين. إذ أكد المسئولون الفرنسيون انه في حالة ما إذا كان مشروع إنشاء مصنع (رونو) في الجزائر يمثل تهديدا لفرنسا، فانه سيتم رفضه، فإذا كان المشروع من اجل منافسة المنتوج الفرنسي في فرنسا، فانه لا يمكن تقبله. فالسيارات التي سيتم إنتاجها في الجزائر يجب توجيهها إلى السوق المحلي و ليس للتصدير إلى فرنسا. بينما تريد الجزائر سيارات ذات نوعية عالية يمكن تصديرها، و خاصة نحو دول الاتحاد الأوروبي. بينما تكمن أهداف الطرف الفرنسي في الاستحواذ على السوق المحلي.
إن مصنع شركة (رونو) من ناحية شكل الدخول يختلف عن مصنع طنجة، فالمصنع الثاني هو ملكية مطلقة للطرف الأجنبي، و لكن الجزائر تريد مساهمة في شكل شراكة ضمن الإطار الذي حدده قانون الاستثمار أي %51 للطرف الجزائري و%49 للطرف الأجنبي. و هذا سيمثل قيدا كبيرا بالنسبة لقرارات الشركة الفرنسية. فقد رأى البنك العالمي في دراسة أخيرة شملت أكثر من 80 دولة أن الجزائر هي الدولة الوحيدة التي تطبق هذا المعيار في العالم. كما أن هناك انتقادات كثيرة حول المؤشرات المرتبطة بأداء الأعمال في الجزائر خلقت العديد من الانتقادات و الترددات لدى العديد من الشركات الصناعية من اجل الاستثمار في الجزائر. و اعتقد أن المساهمة في شكل شراكة هي ضمانة كبيرة في إطار هذه البيئة لدى الشركة أحسن من الملكية المطلقة للشريك الأجنبي. و سيستفيد كلا الطرفين من هذه الصيغة حالما يدخل المصنع قيد الإنتاج.
كما انه من ناحية أخرى، نلاحظ أن التوجه الحالي للجزائر في تطوير البنية التحتية و النقل الجماعي، فهناك إنفاقات كبيرة بملايير الدولارات تمت من اجل انجاز خطوط السكك الحديدية، المترو و النقل الحضري في اكبر المدن. و الهدف هو محاولة التقليل من استعمال السيارات الفردية. كما أن ارتفاع حظيرة السيارات بالجزائر أدت إلى ارتفاع حجم استهلاك الوقود، كما أن التوجه العالمي الراهن لإنتاج سيارات اقل تلويثا للبيئة و خاصة في الدول الصناعية، حيث تملك السيارات اليابانية ميزة تنافسية في هذا المجال، البحث عن مصادر طاقة جديدة لمحركات السيارات تكون صديقة للبيئة، معايير دولية جديدة، توجهات جديدة المستهلكين نحو تشكيلات مختلفة و ذات مواصفات راقية من السيارات اثر على التوجهات الإستراتيجية للشركات الكبرى لإنتاج السيارات. كل هذه العناصر اعتقد أنها ستحدد الإستراتيجية المستقبلية لمصنع (رونو) في الجزائر. كما أنها في نفس الوقت ستؤثر على توجه السلطات العمومية في الجزائر من ناحية علاج الخلل و الانحراف في مجال السياسات الصناعية التي لا يستفيد منها الاقتصاد الوطني، و لا تساهم في خلق الثروة الحقيقية، و لا في امتصاص البطالة، و لا خلق اندماج حقيقي للصناعات المحلية مع هذه الشركات.
كما أن العديد من المختصين لنجاح مثل هذا المشروع، لا يتحدثون عن بيئة الاستثمار في الجزائر التي تصنفها المؤسسات المالية و الاقتصادية الدولية و الهيئات المختصة على أنها غير ملائمة، بل يركزن على العائد المالي لهذا المشروع، بحكم أن الدولة هي الضمان الأساسي لهذا المشروع، بحكم الاتفاقيات الثنائية في مجال حماية الاستثمار التي تربط الدولتين؟. فالاستثمارات الأجنبية التي تقوم بها الشركات الأجنبية أكثر حساسية لكل الاختلالات على المستوى الاقتصادي، المالي و الاجتماعي و السياسي. فالعائد المالي هو شرط أساسي و ضروري لنجاح أي مشروع مشترك. فما هو العائد الأمثل للشركة حتى تكون ذات قدرة تنافسية ناجحة على المدى المتوسط و البعيد. و ما هو الحجم الأمثل للسيارات الواجب إنتاجه لتحقيق العائد الأمثل؟. و هل يتحقق فقط من خلال استهداف السوق المحلي فقط، أم من خلال عمليات التصدير إلى الاتحاد الأوروبي و الاستفادة من اتفاقية منطقة التبادل الحر المقررة في عام 2020، و اتفاقية منطقة التجارة العربية الحرة؟. إضافة إلى مراعاة المزايا التي يمنحها المنافسون في نفس القطاع التي تختلف عن الجزائر من ناحية تكاليف عناصر الإنتاج مما يستدعي طرح تشكيلات جديدة من السيارات في السوق تراعي هذا العنصر، و أنماط الاستهلاك، إنتاجية العامل مقارنة مع الدول الأخرى، مستويات الأجور..الخ.
و اعتقد أن أحسن وسيلة للاستفادة من المشاريع المستقبلية في السنوات القادمة هو إعطاء مصداقية اكبر للاستثمارات الأجنبية في الجزائر بخلاف ما تتحدث عليه الهيئات الدولية، ثم قدرته في الاندماج مع النسيج الصناعي الجزائري (التدريب، تكنولوجيات جديدة، الاستفادة من المواد المحلية و قطع الغيار التي ستشكل مصدر إنشاء العديد من الصناعات الصغيرة و المصغرة التي ستزود هذه الشركة و بالتالي خلق عناقيد صناعية في هذا المجال مع إمكانية اندماج الجامعات و مراكز البحث في هذا الإطار). و تلعب السلطات العمومية دورا أساسيا في تحقيق هذه المنظومة المتكاملة من العلاقات من خلال توفير البيئة المحفزة لهذا النجاح.
أ.د..زايري بلقاسم
أستاذ باحث بكلية العلوم الاقتصادية (جامعة وهران)