ها نحن على أبواب نهاية العام الجامعي الجديد، و لكن لم يتغير شيء، فكل عام هو نسخة للعام الماضي، سينتهي العام مع احتجاجات الطلبة و يبدأ عام جديد تستمر فيه احتجاجات العام الماضي بأشكال متنوعة (غلق أسوار الجامعات أو الإدارات أو الكليات، أو منع الطلبة من إجراء الامتحانات الاستدراكية، و حتى منع مداولات الأساتذة و غيرها)، و تختزل السنة الجامعية في شهور معدودات لا يتمكن فيها الأستاذ من إتمام الحجم الساعي للمقاييس التي يدرسها، و لا يتمكن فيها الطالب من الحصول على المعرفة الضرورية. كما أصبحت العلاقات ما بين الفاعلين مجرد صراع منع الجامعة من القيام بدورها الحقيقي. و بهذا تكون الجامعة قد فقدت كل المعاني الحقيقية التي وجدت من أجلها، كما أصبحت العوامل التي تصنع النجاح في الوقت الحالي تختلف عما كانت عليه في العقود الماضية. فلقد أصبح ممثلو الطلبة (في العرف الجامعي نقابات طلابية) فاعل أساسي و مؤثر قوي في المسار البيداغوجي للطلبة، و غابت مؤسسات الجامعة الحقيقية عن صناعة الأجيال، و أصبح ممثلو الطلبة هم من يصنع وهم النجاح. و أصبح الخريجون الجامعيون بمختلف تخصصاتهم منتج هؤلاء و ليس منتج ما يبذله الأساتذة طوال العام الدراسي. فهل تساؤلنا يوما عن أسباب هذا الانحراف و ما هي نتائجه؟. هل حاولنا تقويم ما اعوج أم أننا جزء أم ضحية هذا الانحراف؟.
و أنا اكتب هذه الكلمات داخل مكتبي بالجامعة تأسفا و متألما عما آلت إليه أحوال الجامعة، فإنني صوت واحد من بين آلاف الأصوات المتألمين من داخل الجامعة، أرى بأم عيني صناعة الإخفاق و لا استطيع أن أفعل أي شيء. و أنا من بين الآلاف من يرى كيف أصبحنا شركاء في كواليس الأبواب المغلقة لصناعة وهم النجاح تسويق الفشل. و حينما كنت طالبا تفاعلت منظومة متكاملة و صارمة لتحفيزي على العمل و النجاح (الأسرة، المعلم، المحيط، الشارع، المسجد..الخ) و كان يقال دائما من زرع الوهم حصد الفشل. و كان هذا التفاعل يمثل سر النجاح لآلاف الخريجين من زملائي الذين تخرجوا من المدارس و الجامعات بمؤهلات عالية، بعضهم يتواجد في أرقي الجامعات و المراكز و المؤسسات البحثية في الداخل و الخارج، و بعضهم الآخر يشغل مناصب عالية في الدولة في كافة التخصصات. و عندما رجعت إلى ما نحن عليه، سألت نفسي لماذا انتقلنا من صناعة النجاح إلى صناعة وهم النجاح؟. ذلك النجاح المزيف الذي تظهر نتائجه في الواقع عندما يتم تقزيم هذه الشهادات التي تقوم المصالح البيداغوجية بتحضيرها في بداية السنة، و كأنها تعلم ان النجاح مضمون للجميع. شهادات أصبحت لا معنى لها، الجميل فيها فقط الألوان التي طبعت بها. إنه الواقع الذي يعبر عن إنتاج الفشل ووهم النجاح.
أتعجب عندما تغلق علينا أبواب الجامعات على مدار السنة الجامعية، و خاصة بعد ظهور نتائج المداولات، أو ظهور نتائج انتقاء طلبة الماستر أو ظهور نتائج الدكتوراه. نتعرض عندها لكل أشكال الابتزاز و الضغوطات من اليمين و الشمال لإعادة النظر في ما تم انجازه و ما يمثل حصاد العام الجامعي، عندها نصبح ضحية لكل الابتزاز و من أطراف متعددة، و نشارك رغم عنا في إنتاج وهم النجاح و تسويق الفشل، و نصبح جزءا من قواعد اللعبة و الصراع بين الفاعلين داخل الجامعة من أجل مصالح فانية.
و أتذكر يوما عندما كان الأساتذة يختلفون فيما بينهم في مجلس المداولات حول عتبة الإنقاذ، و قد يصل هذا الاختلاف إلى مشاجرات. أتعلمون ما مستوى هذه العتبة ربما قد لا يتجاوز في غالب الأحيان 3 نقاط أو أقل من ذلك. و عندما تصبح هذه الحقائق جزءا من التاريخ النقي الذي أنتج النجاح لآلاف الطلبة الجيدين، يصبح الواقع الآن جزءا من المستقبل الذي سينتج وهم النجاح لآلاف آخرين ربما ستلفظهم أسواق العمل بشركاتها متعددة الجنسيات. فصدق أو لا تصدق عندما يتم إنقاذ الطلبة بما يعادل 4 أو 5 مقاييس أساسية و عندما يزج بالفاسد مع الجيد في نفس المسار، فتصبح كل البضاعة فاسدة، لأنك لا تستطيع أن تميز بين الجيد و الفاسد، و لا تستطيع ان تجعل من مبدأ “العقوبة الموضوعية” سرا للنجاح ، بل أنت تسوق للفشل , تعطي أي معنى لقاعدة المكافأة.
و لا نتعجب إذا أساء الناس لنا و لما نقوم به، و من بضاعتنا المعيبة في البنوك و المؤسسات و الإدارات لأننا ساهمنا بطريقة أو بأخرى ساهمنا في تسويق الفشل، فكيف يستقيم الظل و العود أعوج. فلم يعد للعمل معنى، و لم يعد للنجاح عندنا أسرار سحرية، و رغم ان الله ذكر في القرن ” قل هل يستوي الذين يعملون و الذين يعملون”، فقد أصبح العمل عندنا لا معنى له، و أصبحت الجامعة مليئة في كل مستوياتها بالفاسد و الجيد، و يثبت الواقع أن الفاسد هو الذي يصبح النموذج الذي يجب الاقتداء به، هو المرجعية لأبنائنا و هو المرجع في الشطارة كنا يقال عندنا، و يصبح الجيد هو المتخلف و هو غير القافز. لقد فقهت الدول الناجحة أسرار النجاح و أخذت بها، و هي الإنسان، ربما تكون قراراتنا مدفوعة بظروف آنية نحاول من خلالها ضمان الاستقرار و تبرير تسويق الفشل، و لكن ما هو موقعنا في المستقبل عندما سنحصد ما زرعنا، فإذا كان الزرع سليما كان الحصاد سليما، و إذا حدث العكس فتلك هي الطامة الكبرى، و عندها لا ينفع الندم، لأن البلوى ستكون عامة و لا تنفع عندها حسراتنا, لان زمن التأسف قد ولى و لنقضى، و لم يبقى إلا زمن إعادة إنتاج وهم النجاح من جديد و تلك هي حكاية أخرى.
أ.د. زايري بلقاسم