لن أسعى في تحليلي هذا إلى التموضع في خانة المُساندين أو المعارضين للتعديل الدستوري، لأن التموضع تُمليه قناعات سياسية للأطراف المؤيدة أو المُعارضة، وهمّي الأساسي يتركّز على كشف أبعاد ومرامي بعض المواد المُقترحة في مشروع التعديل الدستوري، والتي أرى أنها تُشكّل خطرا كبيرا على الأمن القومي الجزائري بالدرجة الأولى، والتي لا أستبعد أن بعض الأيادي أقحمتها في هذا التعديل لخلق فتنة وتفرقة كبيرة وخطيرة بين الجزائريين لحاجة في نفس يعقوب ليس إلا.
أقول ذلك بعدما إطلعت على مسودّة التعديل الدستوري واستوقفني نص المادة 51 التي تنص على ما يلي: “يتساوى جميع المواطنين في تقلد المهام والوظائف في الدولة دون أية شروط أخرى غير الشروط التي يحددها القانون. التمتع بالجنسية الجزائرية دون سواها شرط لتولي المسؤوليات العليا في الدولة والوظائف السياسية”.
نص هذه المّادة برأيي يتناقض مع جوهر السياسة التي تبنّاها رئيس الجمهورية منذ وصوله إلى قصر المرادية سنة 1999، والهادفة إلى جمع شمل الجزائريين وإخراجهم من النفق المُرعب الذي دخلته البلاد خلال العشرية السوداء، والذي أدّى إلى إقتتال الجزائريين وسفك دمائهم من منطلق الخلاف العقائدي، والإديولوجي، وبالفعل فقد نجح الرئيس بوتفليقة في إخماد نار الفتنة بشكل كبير، ومكّن البلاد من استعادة أمنها وعافيتها، عبر سياسة السلم والمصالحة التي كرّسها عبر استفتاء شعبي، وهذا ما سيُسجّله له التاريخ.
لكن في الوقت الذي انطلق الرئيس بوتفليقة في تمتين أواصر الوحدة الوطنية، عبر مشروع التعديل الدستوري الأخير، الذي أقرّ دسترة اللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية، لسحب البساط من تحت أرجل بعض الجهات التي لم تتوقف يوما عن توظيف مطلب الإعتراف بالأمازيغية لإحداث الفرقة بين الجزائريين، بل ووصل بها الأمر إلى حدّ المُطالبة بحكم ذاتي أو استقلال منطقة القبائل، وأعني هنا حركة “الماغ” الإنفصالية التي يقودها فرحات مهني المُتحالف حتى مع الصهاينة، قُلت في هذا الوقت بالذات والحساس للغاية، الذي أراد الرئيس بوتفليقة أن يستكمل فيه بناء الدولة الجزائرية على أسس المُواطنة التي تعترف بكل مُقوّمات الهوية الوطنية الجزائرية، والتي يجتمع ويتساوى تحت فضائها الجميع، يأتي التعديل الدستوري، المُتضمّن للمادة 51 المذكورة سالفا، ليُحدث شرخا كبيرا في منظومة وحدتنا الوطنية، من خلال تشكيك هذه المادة في “الوطنية الخالصة” لملايين الجزائريين في المهجر، والذين فرضت عليهم ظروف إقامتهم خارج الجزائر أن يتحصّلوا على جنسية بلد الإقامة للتمكن من ممارسة حياتهم الطبيعية واكتساب كامل الحقوق، كما أن الملايين من أبناء المُغتربين الجزائريين تحصّلوا على جنسية البلد الذي وُلدوا فيه تماشيا مع قوانين هذه البلدان التي تعتمد على رابطة الإقليم في إكتساب الجنسية، فهؤلاء كلهم، والذين تتفنّن ممثلياتنا الدبلوماسية في الخارج في تجنيدهم وتحسيسهم بضرورة المُشاركة في الإستحقاقات والمواعيد الإنتخابية التي تشهدها الجزائر، باعتبارهم جزائريين، يجدون نفسهم اليوم مع نص المادة 51 من التعديل الدستوري “ناقصي المُواطنة”، ولا يحق لهم “تولي المسؤوليات العليا في الدولة والوظائف السياسية”!؟
من منطلق تخصصي في القانون، رُبّما أجد الأعذار لفرض شروط كبيرة ومُتعدّدة على الراغب في الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، على اعتبار أن الجزائر بلد فتي، ولم يُحقق استقلاله إلا منذ عقود قليلة خلت، وهذا يفرض برأيي تحصين موقع الرئاسة وتأمينه، لكن أن تسري هذه الشروط على باقي المناصب العُليا في البلاد، فهذا ما لا أجد له أي تفسير قانوني أو منطقي، بل أرى أنه سيُسهم في توسيع الهوة مع أفراد جاليتنا في الخارج والتي تُعدّ بالملايين، وسيحول كذلك دون عودة العديد من “الأدمغة الجزائرية” في الخارج، والتي تمّ تهجير بعضها عنوة لأسباب مُتعددة، لا يسع المقام لتفصيلها.
برأيي أنه كان من الأجدر أن يُركّز المشرع الجزائري في المادة 51 من التعديل الدستوري، ليس على “ازدواجية الجنسية”، وإنّما على “إزدواجية الولاء” لأن هنالك بعض المسؤولين السامين ممن ليسوا “مزدوجي الجنسية” لهم إقامات ومصالح وارتباطات في الخارج تفوق بكثير بعض مُزدوجي الجنسية، ولهم حسابات في البنوك الأجنبية تُقارب ميزانية بعض الدول الصغيرة، وغالبية استثماراتهم تتجه إلى خارج الجزائر.
من هنا أرى أن المادة 51 من التعديل الدستوري، قد تمّ إقحامها من قبل بعض المُندسّين، للتشويش على الرئيس بوتفليقة، بذريعة رُبّما قطع الطريق أمام بعض المُعارضين في الخارج من مُزدوجي الجنسية، أو بعض الأشخاص الذين لهم ماضي أسود في تاريخ البلاد، لكن هذه الذريعة برأيي تحيد كثيرا عن منطق الأشياء، إذ لا يُعقل أن نُعاقب ملايين الجزائريين لأن هنالك بعض مئات أو آلاف الجزائريين في الخارج يُشكّلون خطرا على أمن البلاد، علما هنا أن عديد المسؤولين السامين في الداخل من غير مُزدوجي الجنسية عاثوا فسادا في مؤسسات الدولة وتسبّبوا في غالبية الكوارث التي عاشتها البلاد، وهنا كذلك أودّ أن أُضيف بأنّ مبدأ عدم التمييز هو الأساس، وهذا ما تعتمده كل دساتير العالم، وبالتالي فإن تقليص حجم المواطنة لملايين الجزائريين تحت شُبهة “إحتمال تعاونهم مع الخارج” يضرب هذا المبدأ الدستوري العالمي في الصميم، وبالتالي أرى أنه من الضروري أن يتدخل رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، لإعادة الأمور إلى نصابها، لأن من قام بإقحام هذه المادة في التعديل الدستوري يستهدف بوتفليقة قبل أي كان، ويسعى إلى إحداث شقاق كبير بين الجزائريين، ولا أستبعد هنا أن تكون العُلبة السوداء هي من لغّمت التعديل الدستوري. حبيبي عبد القادر محام وخريج معهد الدراسات الدبلوماسية والإستراتيجية بباريس