بوتفليقة والعسكر…هل هو الداهية أم هم الأغبياء ؟

PLAY

 

” كنت أظنك أذكى من هذا .. كان بإمكانك استغلال الفرصة التاريخية التي منحوك لتحييدهم (يقصد العسكر) .. لقد أضعت فرصة وحيدة لتكون .. السيّد ! ” ، بهذه العبارات خاطب بوتفليقة سيد احمد غزالي عام 1992 حين كان رئيسا للحكومة ، لقد كانت تراود بوتفليقة منذ عهد بعيد فكرة أن يكون السيّد الوحيد وصاحب السلطات كلّها ، خاصة وأن الرجل ولد ونشأ في بيئة ملكية حيث النموذج السياسي الأعلى كان الملك مطلق السلطات ، لا يمكننا تجاهل سيكولوجية الرجل ومراحل مهمة من حياته لا شكّ أنها لعبت دورا كبيرا في تكوين رئيس ذو شخصية متعطّشة للحكم ومتمسّكة به حتى الموت !

يوم استلم بوتفليقة مقاليد الحكم في 1999 لم يكن يرى في تعيين العسكر له مزيّة أو فضلا منهم عليه ، بل لقد كان يعتبر أنه استردّ شرفه الضائع ذات ليلة باردة من ليالي يناير 1979 ، وأنه استعاد حقّه المسلوب في الحكم الذي كان يبعد عنه بضع خطوات بعد وفاة بومدين ، والذي ادعى أن هذا الأخير ترك رسالة يوصي فيها بأن يكون بوتفليقة خليفته ، دون أن يظهر أثر لهذه الرسالة رغم أن الراحل قاصدي مرباح ورجاله قاموا بتفتيش بيت الرئيس بومدين ، وقد صرّح بوتفليقة من قبل لإذاعة فرنسية بأن ما وقع عشية إعلان بن جديد رئيسا هو انقلاب أبيض ! ، يعود تاريخ العلاقة الباردة والمضطربة بين بوتفليقة والمؤسسة العسكرية إلى هذا العهد ، فلم ينس الرجل قرار العسكر عزله وانسحابه من الحياة العامّة طيلة عقدين من الزمن .

عندما قاربت ولاية المجلس الأعلى للدولة على الانتهاء كان بوتفليقة أقوى الأسماء المرشّحة لإعلانه رئيسا للجزائر ، بعد اجتماع للمُقرّرين في المؤسسة العسكرية مع بوتفليقة وانتهاء مهلة التفكير التي طلبها ردّا على عرضهم له لرئاسة البلاد ، كان يفترض أن يظهر الرجل في 30 من يناير عام 1994 لإعلانه رئيسا للجزائر قبل أن يردّ على مبعوثي كل من توفيق نزّار والعمّاري قائلا : ” لم أعد أمارس السياسة ” وحمل معطفه وطار إلى سويسرا ، لم يجد المجلس آنذاك إلا إعلان اليامين زروال رئيسا للجمهورية ، كان بوتفليقة يريد أن يكون مرشّح العسكر وكان يقول أنه يطرح نفسه كإصلاحي ، لكن بعض التحليلات تقول أن الرجل أدرك أنه يراد أن يُزجّ به في أتون الجحيم حيث كانت الأزمة الأمنية تشتد والأزمة الاقتصادية تخنق البلاد فرفض الوقوع في هذا الفخّ ، بعد معاودة القدر له في 1999 وبعد أن بدأت تعرف أسعار النفط انتعاشا اعتلى بوتفليقة كرسي الرئاسة وبدأ في نسج خيوط الشبكة التي أراد أن يطيح بكل الجنرالات فيها ، في بادئ الأمر كان يتصدّى للتهديدات بالمتابعة القضائية لبعض الجنرالات المتهمين في قضايا الاختطاف القسري والتصفيات الجسدية ، ثم بدأ في تعيين رجاله الثقات في المناصب الاستراتيجية ، عمل كذلك على الاستفادة من خبرات وعلاقات بعض الجنرالات النافذين كالجنرال العربي بن خير الذي عيّنه مديرا لديوانه مستفيدا من علاقاته الجيدة مع السعوديين والفرنسيين والأمريكيين ، بعد ذلك قام الرئيس تدريجيا بعزله إلى أن انتهى به الأمر سفيرا في المغرب إلى أن مات ، وفي عام 2004 عرف الصراع الرئاسي العسكري تطوّرا غير مسبوق ، حين أعلن بوتفليقة ترشّحه للعهدة الثانية ، وتولّى العمّاري قائد الأركان آنذاك قيادة الجبهة المضادّة لبوتفليقة ، فكان يستقبل سرّا منافسيه ، لقد أحدث هذا المنعرج شرخا عميقا في المؤسسة العسكرية ، حيث استطاعت مديرية الاستعلامات والأمن بقيادة الجنرال توفيق أن تتمرّد عن قيادة الأركان ، لم تكن في يوم من الأيام المؤسسة العسكرية منقسمة في مثل هذه القرارات الحاسمة ، لقد عرف بوتفليقة لمن يوجّه ضربته وأدرك أين يضع رجله ومرتكزه ، بضعة أشهر قليلة بعد نجاحه في أفريل 2004 يعلن العمّاري قائد الأركان استقالته ، ليتم تعويضه بالقايد صالح وهو عسكري معروف بولائه لبوتفليقة الذي منحه منصبا لم يكن ليحلم به ، وتعيينه مؤخرا نائبا لوزير الدفاع ، ليتولّى مهمة تعيين ضباط عسكريين أقل تسيّسا وليعمل على عصرنة الجيش ، ولقد شكّل حصنا للرئيس بوتفليقة في وجه معارضيه ومنتقدي قدرته الصحية على إدارة شؤون البلاد خصوصا .

قادت المخابرات حملة شرسة ضد رجال بوتفليقة حين أعلن نيته تعديل الدستور ليمرّ للعهدة الثالثة ، مكرّرة تجربة الجنرال بتشين لكن بوتفليقة ليس زروال ! ، لم يكن يدور في خلد الرئيس أن يتراجع خطوة واحدة إلى الوراء ، نجاح بوتفليقة في افتكاك العهدة الثالثة كان نذيرا ببداية نهاية أسطورة (الجنرال توفيق) وجهاز المخابرات ، بعد عودة الرئيس من رحلة العلاج في باريز إثر وقوعه ضحية جلطة دماغية في ربيع 2013 ، قاد عملية واسعة لتفكيك جهاز الاستعلامات والأمن ، حيث سرّح العديد من مسؤوليه وسحب العديد من مهامه وصلاحياته وألحقها بقيادة الأركان ، خصوصا بعد أن فجّر هذا الجهاز العديد من قضايا الفساد التي تمسّ عددا معتبرا من مقرّبي الرئيس ورجاله ، والتي كانت مدار حديث الرأي العام بينما يرقد الرئيس في فال دو غراس ، لينتهي هذا المسار الطويل من الصراع بالقرار الذي شغل البلاد ، واهتمت لارتداداته حتى الصحافة الدولية وهو خبر إحالة آخر الجنرالات الجانفيريين على التقاعد وهو الجنرال محمد مدين المدعو توفيق ، إن بوتفليقة هو أحد الذين ساهموا في بناء النظام الجزائري غداة الاستقلال ، ولا شكّ أنه يدرك جيدا مفاصله ونقاط ضعفه وقوّته ، والذين كانوا نافذين في نظام لم يصنعوه لا يمكنهم أبدا الإحاطة بتفاصيله ، مشهد يراه البعض نهاية لعهد عساكر يناير الأسود ، وأن الأفراد مهما تغوّلوا فإن النظام يبقى أكبر منهم ، وما يحدث اليوم من تراشق سياسي هو ارتجاج طبيعي لنهاية مرحلة سياسية وبداية أخرى لا يعرف كيف ستكون ملامحها ، خصوصا مع الأزمة الاقتصادية التي باتت تؤرّق الجزائريين ، وصحة الرئيس المتدهورة وغيابه عن المشهد العام الذي يجعل نهاية هذا العهد غير مؤكدة !!