تعديلات دستورية، لكن لمن ولماذا ؟

PLAY

 

 

 

كتبت في إحدى مقالاتي السابقة عن المسألة الدستورية في الجزائرية، وحاولت أن أفهم لماذا لايولي الجزائري أي أهمية لها، فقلت بأن ذلك يعود إلى بدايات إسترجاع الإستقلال، عندما تجاوز الرئيس بن بلة المجلس التأسيسي، ووضع دستورا في قاعة الماجستيك –أي خارج المؤسسة الشرعية-، وصاغه أناس غير معروفين، ووضع حسب مقاس بن بلة والسلطة الحاكمة آنذاك، فكان بذلك دستور رئيس ومجموعته، وليس دستور لدولة وأمة.

ولعل آنذاك شعبنا كان منهكا، فلم يكن له رد فعل بسبب التعدي على صلاحياته، لكن أدى إلى إستقالات داخل المجلس التأسيسي، ومن أبرزها إستقالة رئيس المجلس فرحات عباس، وقد كان دستور 1963 هو الدستور المؤسس لكل الدساتير الجزائرية التي جاءت فيما بعد.

لكن لعل يعود السبب أيضا أن الجزائر لم تعرف في تاريخها وثيقة دستورية على عكس بلدان آخرى في منطقتنا مثل تونس التي عرفت الدستور في القرن 19 عندما حاول الباي أنذاك ومعه خيرالدين التونسي إلى إدخال إصلاحات في تونس مبنية على إقامة دولة مؤسسات جديدة، وقد تأثر خيرالدين في ذلك بما رآه في أوروبا من مؤسسات فعالة، ونقله في كتابه  “أقوم المسالك في إصلاح الممالك”، ولعل هو مايفسر نجاح تونس نسبيا في عمليتها الإنتقالية، ونجد نفس الأمر في مصر التي عرفت أول دستور لها مع ثورة عرابي في 1880، والذي ساهم فيه المصلح العظيم محمد عبده، فكان هو أيضا متأثرا بالمؤسسات الأوروبية، وأعتبرها احد أسباب قوة دول أوروبا آنذاك، فما لايعلمه الكثير هو ان هذين الدستورين التونسي والمصري كانا دستورين ديمقراطيين بأتم معنى الكلمة، ولذلك كانا أحد أسباب إسراع الإستعمارين البريطاني والفرنسي إلى إحتلالهمااني والفرنسي لأنهما خشيا أن تستفيقا وتتقوى بنظامها السياسي الديمقراطي، مما يصعب عليهما إستعمارهما فيما بعد، ولعل لايعرف الكثير أنها قد وقعت في إيران ايضا ثورة من أجل الدستور في عام 1906، وأيدها رجال الدين، وهو ثورة من أجل إقامة ملكية دستورية للحد من سلطات الشاه آنذاك، لكننا نحن الجزائريون لم نعرف هذه الثقافة -حسب ما يبدو-، وهو ما يمكن أن يكون أحد أسباب عدم الإهتمام الشعبي بالمسائل الدستورية، بالرغم أننا عرفنا دستورا لكل رئيس منذ1962، وهو ما يقلق، لأنه لم نفهم ماهية الدستور واهميته، وأنه مصدر القوانين وآليات لتنظيم السلطات، فهو مهم جدا، لأنه يؤثر في كل مسار ومستقبل الدولة وشعبها.

وقد أعلن سعداني بأن التعديلات الدستورية الجديدة ستكون جاهزة، ولعل سيصوت عليه في الغرفتين في شهر جانفي، وقد أجتمت شخصيات في الدولة تحت رئاسة الرئيس بوتفليقة ومشاركة شخصيات لا نعرف بأي حق ستدرس هذا الدستور، والجميع يعلن أن أي دستور هو من إنتاج مجلس تأسيسي ممثل للأمة، فمن فوض هؤلاء بصياغة دستور للبلاد أو إدخال تعديلات جوهرية عليه؟، فهل إنتخاب الشعب على الرئيس يخوله أن يفعل مايشاء بما فيها صياغة دستور أو القيام بتعديلات تمس بتوازنات السلطة دون أي رقيب؟، فما أدرانا هل ستأتي هذه التعديلات بالخير للجزائر أم لا؟ وقد رأينا كيف أدخلت التعديلات السابقة في 2008، فأدخلت الدولة في مأزق كبير بعد مرض الرئيس الذي حصرت كل الصلاحيات في يده، وطبل الإنتهازيون لذلك أيما تطبيل، وهم أنفسهم اليوم سيطبلون للعودة إلى ماكان من قبل؟.

فإلى متى ندخل في ثقافتنا أن الدستور هي من مهام الأمة كلها، وليس أشخاص، لكن علينا أن نسجل أنه قد تراجعنا كثيرا في هذه المسألة مقارنة إلى  العقود الماضية، وما يدل على التراجع الكبير للجزائر رغم كثرة المتعلمين هي هذه التراجعات حتى عند عامة الشعب، فلم يتمكن أي رئيس في الجزائر أن يتلاعب بالدستور أو يعدله إلا وسعى إلى إشراك الشعب بطريقة أو بأخرى، فالرئيس بومدين بكل قوته وشرعيته النسبية التي أكتسبها بالتنمية، وليس شرعية شعبية أو دستورية، أضطر إلى طرح دستور1976 لنقاش شعبي غير مباشر من خلال مناقشة الميثاق الوطني الذي أنبثق عنه هذا الدستور، ونفس الأمر مع دستور1989 للشاذلي بن جديد الذي عرف نقاشا شعبيا وفي وسائل الإعلام، ووصل إلى درجة طرح أنظمة أخرى في تلك النقاشات، ونجد نفس الأمر مع دستور1996 للرئيس ليامين زروال، لكن اليوم لانعلم حتى إن كان دستورا جديدا أم مجرد تعديلات، ولم يعرف في تاريخنا منذ1962 صياغة دستور أو القيام بتعديلات دستورية تمس بالتوازنات دون إستفتاء شعبي ونقاشات واسعة، بل تنظم حملة إنتخابية تشرح مميزات الدستور الجديد أو تلك التعديلات.

ولعل سيتذرع البعض بالقول انه تم إستشارة الأحزاب، فهذا أمر مضحك، ويدل على أننا نعيش أسوء من عهد الحزب الواحد، فيبدو أن الكثير قد نسوا أنه في عهد الأحادية، خاصة في عهد بن جديد الذي أصبح فيه للحزب اليد الطولي في رسم السياسات، كانت تعرض كل القضايا على قواعد الحزب في القسمات، وتنقل كل المقترحات في إطار تقرير عند  كل مستوى حتى تصل إلى قمة الحزب، فتحوصلها نظريا، لكن في الحقيقة عي عملية شكلية، لأن كل شيء أتخذ من قبل، واليوم نعيد نفس المسألة، لكن فقط عوضنا ذلك بالأحزاب التي تقدم مقترحاتها فقط دون حتى مناقشة، فهي طريقة أكثر بشاعة من عهد الأحادية.

فعندما نطرح هذه المسألة ليس فقط كتاريخ، بل كي نبين مدى الإنحطاط السياسي الذي بلغته الجزائر، بما فيها الأحزاب سواء كانت المعارضة أو الموالية، فهل من المعقول أن لايعلم مناضلي زقيادة حزب جبهة التحرير الوطني فحوى ومضمون هذه التعديلات فيخبروننا بها، فهل أصبحنا نصفق فقط على أشياء لانعرف كنهها، وحتى ولو عرفناها فإننا نحتاج لمناقشتها، كي نعرف إن كانت تخدم الدولة أم أشخاص، فكل تعديل دستوري له أهدافه، فأي دستور او تعديل يخص المة ودولتها، وليس مجموعة أشخاص تبت فيه كما تشاء.

نعتقد أن هذا هو مظهر من مظاهر الإنهيار التام، فهل من المعقول لشعب يستقيل، ولايهمه ماتقرره هذه التعديلات الدستورية؟، فهل الدولة الجزائرية ليست دولته مادام هذا الدستور هو دستور الدولة الجزائرية؟، نعتقد أن هذا الموقف المبالي لايعني إلا شيئا واحدا وهو أن جزء من شعبنا عاد إلى العصور الوسطى عندما كانت الشعوب  لاتبالي بمن يحكمها ومايقرره الحكام لأنه ليس من مهامه، لكن لا نتهم شعبنا، فهو لايقول أنه دستور الجزائر بل عادة ما نقول دستورفلان وفلان، أي نسبة إلى الرئيس، فإن كان كذلك فمعناه لم نقم دولة، بل أقمنا سلطة تشبه الدول التي عرفها العالم الإسلامي منذ الفتنة الكبرى، فتنسب الدولة إلى العائلة الحاكمة التي أخذت السلطة بالعنف والقوة والغلبة، أنها مأساة تحتاج إلى دراسة عميقة للخروج منها، لأننا -حسب مايبدو- لم نقم قطيعة مع عصر بن خلدون في كل شيء، فلهذا نقول أننا فشلنا في بناء دولة لاتزول بزوال الرجال.

فهل من المعقول أن يدعو البعض إلى دسترة المصالحة ودسترة محاربة الرشوة وغيرها من المطالب المضحكة؟، ألا نعلم ان ذلك ليس فقط من مهام الدولة، بل هي من مهام كل إنسان يمتلك القليل جدا من الضمير الأخلاقي؟، فمتى نفكر في وضع دستور تقني فقط دون أي مضامين أيديولوجية، ويحدد لنا فقط آليات عمل الدولة ومؤسساتها؟، ويبدو أن هذا هو أهم شيء يجب التفكير فيه.

فأغلب دساتير الدول المتقدمة في المجال الديمقراطي هي على هذه الشاكلة، ولاتضم مواد كثيرة، واستمرت لمدة طويلة مثل الدستور الأمريكي، والعبرة ليس بدسترة ذا أو ذاك، بل العبرة في التطبيق، فأنجلترا أعرق الدول الديمقراطية لاتمتلك نصا دستوريا مكتوبا، لكن الجميع يعرف صلاحيات وطرق وآليات عمل مؤسسات الدولة، ويقدسها.

.         نعتقد ان مأساتنا هو في إستيرادنا كل شيء من فرنسا، بما فيها دستورها، فللأسف لم تتخلص الجزائر من تأثير الفكر السياسي الفرنسي، ومنها اليعقوبية، أين يسيطر المركز على كل شيء، فبالرغم من أن أرضية الصومام، وما أنجر عنها من تطبيقات، قد وضع نواة للدولة الجزائرية نقيضة تماما للدولة الفرنسية، فأقر لجنة تنسيق وتنفيذ الذي أصبح حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية، لكنها تنبثق من برلمان ممثل فيما يسمى آنذاك بالمجلس الوطني للثورة الجزائرية، وهو الذي يحاسب، ويراقب الحكومة، ويقيلها، ويحاسب وزرائها بيد من حديد، وهذا المجلس هو الذي يقرر ويرسم السياسات، أي كان نظاما برلمانيا شبيها بالنظام البريطاني، ولو أستمرت الجزائر بنفس النظام بعد إسترجاع الإستقلال، وطورته إلى عملية البناء الوطني بعد التحرير، لكانت الجزائر جمهورية ديمقراطية برلمانية اليوم يضرب بها المثل في النظام الديمقراطي في منطقتنا، لكن الذين أنقلبوا على المؤسسات الشرعية للثورة في 1962 ألغوا ذلك كله، ونقلوا لنا النظام الرئاسي الفرنسي الممثل في دستور ديغول  لكن دون تعددية، فرحم الله عبان رمضان وبن مهيدي والآخرين من الذين أسسوا للنظام الذي أقره أرضية الصومام الذي كان إثراء عمليا لبيان أول نوفمبر، فقد أراد هؤلاء الثوريين الطاهرين والأنقياء  مناقضة فرنسا الإستعمارية في كل شيء حتى في النظام السياسي للجزائر، وهذا موضوع آخر، لكن علينا الإعتراف بأن الديمقراطية الفرنسية هي أسوء ديمقراطية ضمن الديمقراطيات الكبرى بسبب مركزيتها ويعقوبيتها وغيرها  من السلبيات التي ليس هنا موضوع مناقشتها.

 

البروفسور رابح لونيسي

                                                                  – جامعة وهران-