يجب أن نضع في أذهاننا أن حركة التاريخ ستفرض عاجلا أم آجلا الإنتقال إلى أنظمة ديمقراطية في بلداننا، ومنها الجزائر رغم كل محاولات التحايل على هذه الحركة إما بإحتوائها أو السيطرة عليها أو تحضير طبقة من رجال المال للسيطرة على الدولة تحت غطاء الديمقراطية الشكلية، أو بما اسماه البعض ب”الديمقراطية الأمنية” أي مراقبة أمنية بشكل سلس كما وقع في العديد من الدول، فيجب علينا أن نعرف قراءة حركة التاريخ جيدا والتنبه لها قبل أن تحدث إنتفاضات لايحمد عقباها في بلادنا، مما سيؤدي بنا إلى الفوضى وإنهيار الدولة بشكل مريع، خاصة إذا رافقها فراغ كبير في المجتمع بسبب ضعف الأحزاب والمجتمع المدني التي يمكنها تأطير أي عمل سياسي أو غضب إجتماعي، ولاتتركه يتحول إلى فوضى مدمرة، لكن بإمكاننا تجنب ذلك كله إذا اتفقت السلطة والمعارضة على التفاوض والحوار للتوصل إلى إقامة ديمقراطية حقيقية تكون في خدمة كل أطياف الأمة وطبقاتها وشرائحها الإجتماعية، وتضمن عدالة إجتماعية إلى جانب الحريات الديمقراطية، وذلك كله كي لاتحدث إنتفاضات أخرى فيما بعد، أي ديمقراطية يجد الجميع نفسه فيها، فالديمقراطية ماهي إلا آلية لحل سلمي لكل التناقضات السياسية والأيديولوجية والطبقية والثقافية وغيرها الموجودة في كل المجتمعات والأمم.
فقد أوضح الفيلسوف الألماني هيغل في أواخر القرن 18 بأن إتجاه التاريخ يسير نحو ما أسماه ب”الحريات”، ثم أعادها فوكوياما بالقول بإتجاه التاريخ العالمي نحو “اللبيرالية” بشقيها الديمقراطي وإقتصاد السوق، فقد عرفت هذه الحركة التاريخية لحد الآن عدة موجات، فبدأت بأوربا الغربية وشمال القارة الأمريكية، وبدأت منذ إندلاع الثورتين الفرنسية عام1789 والأمريكية عام 1776، ثم عرف العالم موجات أخرى بعد الحرب العالمية الثانية، ووصلت أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية في نهاية ثمانيينات القرن الماضي، وقد سماها صموئيل هننغتون ب”الموجة الثالثة للديمقراطية”، وأنها ستعرف حتما موجة أخرى ستمس العالمين العربي والإسلامي، وكذلك أفريقيا، وما سيسرع أكثر هذه الحركة التاريخية هو إنتشار التعليم وتوسع الطبقات المتوسطة وصعود جيل شباني يرفض إنغلاق الأباء ووصايتهم والإنتشار الواسع لشبكات الإتصال العالمية كالأنترنيت وشبكات التواصل الإجتماعي والفضائيات وغيرها.
لكن من أهم العوامل التي تعرقل عملية الإنتقال الديمقراطي في هذه المناطق الأخيرة لحد اليوم هي بعض التيارات الأيديولوجية المنغلقة التي تستخدمها الأنظمة الإستبدادية ضد إنتشار الأفكار والقوى الديمقراطية، وفي الكثير من الأحيان تضخم الأنظمة الإستبدادية من هذه التيارات المتطرفة كي تخيف بها القوى الديمقراطية، ثم تدفعها للإختيار بين الإستبداد أو هذه التيارات الأيديولوجية المتطرفة، وجعلها تفضل الإستبداد عليها، كما تلجأ الأنظمة الإستبدادية إلى غرس الذهنية القبلية في المجتمع ودفعه إلى التصادم كي تظهر هذه الأنظمة بأنها الضامنة للسلم والأمن، دون أن ننسى الإقتصاد الريعي وشراء ذمم المعارضة الديمقراطية وفصلها عن الجماهير مما يؤدي إلى فقدان ثقة المجتمع في الطبقة السياسية، فيستقيل من الإهتمامات السياسية، فيخلوا الجو للمستبدين لملأ الفراغ، فالفراغ السياسي يعد عاملا رئيسيا وممهدا لقيام الأنظمة الشمولية حسب دراسة أكاديمية للألمانية حنا آرندت التي تتبعت ودرست طريقة ظهور النظام النازي في ألمانيا على يد هتلر والنظام الستاليني في الإتحاد السوفياتي.
لكن فبمجرد ما يتم إضعاف هذه العوامل سينجح الإنتقال الديمقراطي في هذه البلدان، لكن تتوقف نجاح عملية الإنتقال الديمقراطي على عدة عوامل، وعلى رأسها وجود دولة بمؤسسات قوية، تقود هي العملية طوعا وبذكاء، أي تساير حركة التاريخ، لكن إذا تمت العملية تحت ضغوط داخلية أو خارجية، وخاصة إذا صاحبتها إضطرابات وعنف، فبإمكان أن يسود الإضطراب لمدة طويلة، وبإمكان زوال الدولة من الخريطة العالمية بحكم الضغوط لزرع الفوضى الخلاقة كي تتفكك الدول، مما يسهل عملية إدماجها في “مشروع الدولة العالمية” التي تريد أن تبنيها البرجوازية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بل هناك اليوم تخوفات لدول عريقة من هذا المشروع العالمي الأمريكي، فكيف يكون موقفنا نحن الضعفاء؟.
أن السؤال المطروح اليوم هو ماهو المشروع الديمقراطي الذي يصلح لنا نحن الجزائريين اليوم، ويحقق فعلا طموحات شعبنا، ولايعطي فرصة للتراجع عن المكاسب الديمقراطية بسبب عدم إستفادة الشعب كله من خيرات البلاد، وبتعبير آخر فإنه لتحقيق النجاح الفعلي لديمقرايتنا، وتكون في خدمة الأمة عليها أن ترتبط بالطبقات المحرومة وخدمة الأمة بكل شرائحها وأطيافها، وتكفل العدالة الإجتماعية، مما يتطلب إعادة النظر في كل ميكانيزمات النظام السياسي السائد، وأيضا ليس بنقل النموذج الأوروبي، بل بإمكان الجزائر أن تعطي نموذجا سياسيا ديمقراطيا يكون محط أنظار العالم، خاصة العالمين العربي والإسلامي، ومنها بلدان مغاربية وعربية عجزت على إيجاد نظام بديل بعد سقوط الأنظمة القائمة بعد حدوث ما يسمى ب”الربيع العربي” الذي ادخله في صراعات دموية بين مختلف التيارات الأيديولوجية التي أختلفت حول نموذج الدولة التي يجب إقامتها، ولهذا يجب الإستعداد بنموذج مطروح يتفق عليه الجميع أي لايكون محل خلاف بين كل القوى ومكونات الأمة وأطيافها، ولايمكن أن يكون إلا إذا كان هذا النموذج في خدمة الأمة كلها، وليس فقط طبقة أو تيار أيديولوجي أو مجموعة، فبإمكان الجزائر إستعادة المبادرة، وأن تكون لها مكانة وتأثير كبير ليس فقط بحكم إمكانياتها وموقعها بل أيضا لو عرفت كيف تقدم نموذجا سياسيا وإجتماعيا مبهرا للشعوب المغاربية والإسلامية، لأنها في الحقيقة بإمكانها حل معادلة التوفيق بين ثلاثية “الديمقراطية والحداثة والإسلام” التي ما فتأت تشغل بال المغاربيون والمسلمين منذ زمن خاصة بعد ما يسمى ب”الربيع العربي”، وكل ذلك إنطلاقا من قيم ومباديء ثورتها، وقد أجتهدنا في وضع بعض ميكانيزمات تطبيقها بشكل مفصل في كتابنا “ربيع جزائري لمواجهة دمار عربي”، وهو ما من شأنه ليس تجنب إضطرابات في الجزائر مستقبلا، بل تصبح الجزائر قوة ناعمة بالنسبة لهذه الشعوب، ويحتذى بنموذجها كما كانت تفعل الشعوب الأوروبية مع فرنسا بعد ثورتها عام1789 .
لهذا يجب على الجزائر أن تسبق حركة التاريخ فتصيغ وتطبق نموذجها السياسي والإجتماعي المبهر، فلا يبقى أمام الشعوب المغاربية والإسلامية الأخرى إلا المطالبة بتطبيقه في بلادها كما كانت تطالب الشعوب الأوروبية بتطبيق نموذج الثورة الفرنسية في بلادها، وقد وضحنا بعض معالم هذا النموذج الديمقراطي في مقالة سابقة بعنوان “أي نموذج ديمقراطي للجزائريين؟” التي تحتاج إلى إثراء ونقاش واسع.
البروفسور رابح لونيسي