قال ملك مصر لبطانته وحاشيته إني رأيت في منامي رؤيا عجيبة، رأيت سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف ، وسبع سنبلات خضر، و أخر يابسات ، وأمر بتأويل هذه الرؤيا ، فقالوا له بعد عجزهم عن فك طلاسمها ،انها مجرد اخلاط ، واضغاث احلام ، وهكذا تفعل بطانة السوء في كل العصور والأزمنة حينما تعجز عن الفهم .
لكن الملك الحريص على مصلحة رعيته ، وبقاء ملكه لم ييأس ، وواصل الاستشارة الى ان جاءه اليقين ، والقصة مشهورة ومعروفة في القرءان الكريم ، واستفتي يوسف عليه وعلى نبينا محمد ازكى الصلاة والسلام ، فقال لسائله سيعم البلاد سبع سنين من الخير الوفير ،ثم ينالها قحط وجدب لا يبقي ولا يذر ، فازرعوا هذه السبع سنين زراعة متوالية مستمرة، فما حصدتم فذروه في سنبله حتى لا يهلك ، و احفظوه إلا قليلا ، و هو ما تأكلون في هذه السنين. فلما رأى الملك ما أشار إليه يوسف من الرأي البين الصواب ، وهو الملك المهتم بأمر رعيته المعتني بشؤون مملكته، قال ائتوني بيوسف أجعله خالصا لنفسي و خاصة لي ، فلما أتي به إليه و كلمه، قال له إنك اليوم عندنا ذو مكانة عالية ، نمكنك من كل ما تريد و نأتمنك على جميع شؤون الملك ، فكان ما كان من حسن تدبير وصلاح للعباد والبلاد.
اما عندنا واقول هذا قياسا مع الفارق ، فان الخمس عشرة سنة من الخير الوفير ، والمال الغزير افقدت من بيدهم السلطان والملك العقل وحسن التدبير، وظنوا ان لن يمسسهم سوء ، فلم يحسبوا حسابا للسنوات العجاف وراحوا يبذرون ويسرفون في انفاق المال من دون حسيب او رقيب ، ولم يستغلوا هذا الخير على الوجه الصحيح لأن طريقة تفكيرهم عير صحيحة ونظرتهم للثروة زائغة وجاهلة بقيمة الثروة ، فهم لا يفقهون بان الاسراف حرام في حد ذاته ، فقد نهى النبي صل الله عليه وسلم سعد بن ابي وقاص عن اكثار صب الماء في الوضوء فقال سعد رضي الله عنه : أفي الماء اسراف يارسول الله ، قال نعم وفي كل شيء اسراف وساهم تبذير الحكام في محاكاة المحكومين لهم ، وأصبح البلد بحاله بؤرة للتبذير كل حسب مركزه ، ومن كل حسب قدرته على التبذير وحينما بدت في الافق علامات الأزمة منذ سنين عدة ، قدم الخيرون من ابناء هذا البلد ، وفسروا لمن بيده الملك بالوسائل المتاحة الحلم المزعج ، واقترحوا تدابير لتجنيب البلد المخاطر والانزلاقات ،ونادوا باصلاح منظومة الحكم بالذهاب الى انتقال ديمقراطي تفاوضي ، لا غالب فيه ولا مغلوب يضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار ، ارغد من بيده السلطة وازبد وتوعد ، واوحى للزبانية وحراس المعبد الذين عجزوا عن تاويل الرؤيا ، بشن حملات التهوين ، والتخوين ، حتى وقعت الفاس في الراس والسؤال المطروح اليوم هل من حل ؟
هل يقبل من بيدهم الحكم والملك على الجلوس مع المعارضة والتحاور معها والتوافق معها على تفكيك طلاسم الازمة، وايجاد حلول لها ؟ أم نترك ماتبقى من الاكسجين يتبخر وينفذ ، بفعل المناورت والفرص الضائعة حتى نضيع جميعا .