بقلم: د. مهماه بوزيان – باحث جزائري
خلال بدايات النصف الثاني من هذه السنة، برز التساؤل التالي:
“هل سيكون الهيدروجين الطبيعي هو جيل “الشيست” القادم؟ وهل حقًا سنتمكن منه بسعر الدولار الواحد (أو أقل من ذلك) للكيلوغرام؟!”
ومع بروز السؤال بدأت حماسة الشركات الناشئة في عديد جهات العالم ليس فقط للمخاطرة، بل بدت متفائلة بأن التاريخ سيكرر نفسه مع الهيدروجين الجيولوجي، مثلما كان الحال للشركات الطاقوية المحدودة مع “طاقة مكامن الشيست”، وبأنه سيجلب إليه شركات الطاقة الحذرة. ومن خلال تتبعنا لما يُنشر يمكننا القول أن مزاج شركات الهيدروجين الطبيعي ومستثمريها يطبعه ثقة مفرطة شبيهة بالثقة التي رافقت ثورة “الغاز غير التقليدي (ما عرف بالغاز الصخري)”، وأصحاب هذه الشركات يبدون واثقين من أنهم على وشك تحقيق شيء كبير، وينتظرون العالم ليلحق بهم.
للتذكير، فإنه تم الاكتشاف الأول للهيدروجين الجيولوجي في عام 1987 بشكل عرضي عن غير قصد (بشكل غير مخطط له ولا كان مستهدف البحث عنه)، في قرية صغيرة تبعد حوالي 60 كيلومترًا عن عاصمة مالي باماكو. حيث تمّ العثور عليه في محاولة فاشلة لحفر أبار للمياه من قبل شركة هيدروما الكندية، حيث تمّ العثور على وفرة من “غاز” عديم الرائحة وهو قابل للاشتعال بدرجة عالية. وبعد ما يقرب من عقدين من الزمان، ومن خلال عمليات الاستكشاف اللاحقة في الموقع وجدت خزانات جيولوجية تحتوي على غاز الهيدروجين العالي النقاوة. واليوم، يتم استخدام هذا المورد لتوفير الطاقة لقرية بوراكيبوغو المالية.
إن السياقات التاريخية للإنتقال الطاقوي علّمتنا عدم إغفال أي شيء يجري العمل عليه، فنحن في عالم يشتغل كـ”مصفوفة”، فقد تَحدث اختراقات مهمة في مجال الطاقة من خلال بعض الأعمال التي تبدو هامشية في المشهد العام، وقد تكون مغفولة أو مغفولا عنها، لكن التأثير المستقبلي لها ربما يكون مهما ومؤثرا بشكل محسوس.
كذلك الحال فيما يتعلق بالدور المحتمل للهيدروجين الطبيعي (المعروف باسم الهيدروجين الجيولوجي أو الهيدروجين الأبيض، أو الهيدروجين الذهبي). حتى أن هناك من يرسم له أوجه تشابه مع ثورة الغاز غير التقليدي (الغاز الصخري) في منتصف العقد الأول من هذا القرن الحادي والعشرين، حتى أن الشكوك الأولية حول جدواه التجارية تُذكّر بنفس الشكوك المبكرة حول الغاز غير التقليدي (الصخري). ولعل تصاعد أعمال الاستكشاف وتطوير تقانات موارد الهيدروجين الطبيعي، يقوي من الاحتمال بأننا أمام ثورة صامتة لطاقة محتملة ولصعود مورد طاقوي جديد، كمصدر طاقة وليس كحامل لها فقط.
كما أن تاريخ الطاقة يثبت لنا أن هناك دائمًا شيئًا ما ذا أهمية يطبخ في المختبرات الصناعية يمكنه تغيير المسار. وإن اكتشاف العلامات المبكرة للإمكانات الثورية قبل أن تصبح واضحة للعيان ومدركة من قبل الجميع هو الجزء الصعب. وهذا ما نأمل القيام به، وسط الكم الكبير من الأدبيات الطاغية التي تعمل على قولبتنا وتحجب عنّا إمكانية تحسس المفاجآت.
حقيقة لما نتمعن في مسار الهيدروجين كحامل طاقوي، نجد أغاريده قوية مطربة لكن خطواته بطيئة، فلو نستحضر مضامين التنظير لـ”اقتصاد الهيدروجين” نجدها احتلت حيّزا من الزمن فاق النصف قرن، على الأقل بدء من العمل الذي نشره، في مجلة العلوم بتاريخ في 23 جوان 1972، الباحث في الفيزياء الكيميائية الدكتور جون أومارا بوكريس المولود في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، مرورا بـ”جيريمي ريفكين” الذي نشر في سنة 2002 كتابه “اقتصاد الهيدروجين: إنشاء شبكة الطاقة العالمية وإعادة توزيع السلطة على الأرض”، والمقال النقدي الذي نشره، في سنة 2004، فرانك كريث مع زميله رون ويست تحت عنوان “مغالطات اقتصاد الهيدروجين: تحليل نقدي لإنتاج الهيدروجين واستخدامه”، وصول إلى الكم الهائل من الخطط والمشاريع والأجندات المتمحورة حول إحلال “اقتصاد الهيدروجين” في منظومات الطاقة والاقتصاد عبر العالم.
فِي هَذَا الخِضَمِّ، أجد من الأهمية بمكان لفت “الإنتباه الوطني” إلى موضوع “الهيدروجين الطبيعي أو الجيولوجي”، كنتيجة لخلاصة تتبعي لعديد الأعمال العلمية المحكّمة والدراسات الجادة التي صدرت خلال هذه السنة 2024، والتي استحضر عيّنة من بينها:
1- العمل العلمي للمجلة العلمية “Science Advances” المتعددة التخصصات تابعة للجمعية الأمريكية للعلوم المتقدمة، الذي نشرته بتاريخ 13 ديسمبر 2024، للدكتور “جيفري إليس” الباحث في جيوكيمياء البترول ضمن برنامج موارد الطاقة التابع لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، رفقة زميلته “سارة جلمان” الجيولوجية المتخصصة في نمذجة الأحواض، هذا البحث العلمي الذي نُشر تحت عنوان “تنبؤات نموذجية لموارد الهيدروجين الجيولوجية العالمية”، الباحثان توصلا إلى استنتاجات مثيرة جدا، من بينها: أن طبيعة فهمنا السائدة عن الهيدروجين كحامل طاقة قد تتحول مستقبلا إلى اعتباره مصدر طاقة أولية، كما أن نتائج النمذجة الأكثر احتمالية ترشدنا إلى وجود احتياطيات مهولة من غاز الهيدروجين تحت سطح الأرض تُقدر بحوالي 5600 مليار طن، محاصرة في الصخور والخزانات الجوفية لباطن الأرض. وعلى الرغم من أن معظم هذا الهيدروجين من المرجح أن يكون عمليا غير قابل للإسترداد، فإن جزءًا صغيرًا فقط (على سبيل المثال، 2% فقط من الموارد المحتملة الموجودة للهيدروجين، أي 12 مليار طن) استغلالها من شأنه أن يوفر للعالم طاقة ذات انبعاثات كربونية صفرية صافية لمدة 200 عام تقريبًا.
2- في منتصف شهر أكتوبر 2024، جرى الحديث عن توصل مجموعة من الباحثين المستكشفين لصدع ميدكونتيننت، الذي يمتد من تحت بحيرة سوبيريور عبر أجزاء من مينيسوتا وميشيغان وويسكونسن وأيوا ونبراسكا وكانساس، أنهم عثروا على دلائل تُشير إلى وجود إمكانات هائلة من الهيدروجين الطبيعي، منها ما هو متمركز على عمق ضحل يمكن الوصول إليه.
3- في شهر مارس 2024، نشرت جمعية استكشاف البترول الأسترالية (Energy Geoscience) دراسة بعنوان “بروز الذهب الأبيض والسعي إلى الهيدروجين الطبيعي”، تحدثت فيها عن الزخم العالمي الذي اكتسبته الضجة حول الهيدروجين الطبيعي (الهيدروجين الجيولوجي) باعتباره عامل تغيير محتمل في البحث عن مصادر طاقة فعالة من حيث الوفرة والتكلفة ومنخفضة الكربون. وبناءً على أبحاث شركة (Rystad Energy) فإنه مع نهاية العام الماضي 2023، كانت هناك 40 شركة تبحث عن رواسب الهيدروجين الطبيعي، صعودا من 10 شركات فقط في عام 2020. وحاليًا، تجري جهود استكشافية للهيدروجين الجيولوجي في أستراليا والولايات المتحدة وإسبانيا وفرنسا وألبانيا وكولومبيا وكوريا الجنوبية وكندا. على ذكر كندا، كما تشير هذه الدراسة، فإنه في الوقت الحاضر، تقوم شركة هيدروما الكندية باستخراج الهيدروجين الأبيض بتكلفة تقدر بنحو 0,5 دولار للكيلوغرام. واعتمادًا على عمق الرواسب ونقاوتها، تستهدف المشاريع في إسبانيا وأستراليا تكلفة واحد (1) دولار للكيلوغرام، مما يعزز القدرة التنافسية للهيدروجين الأبيض من حيث السعر، كون كُلفة انتاج الكيلوغرام من الهيدروجين الأخضر تقبع فوق الخمسة (5) دولارات.
4- تجدر الإشارة هنا، أنه في منتصف شهر جوان 2024 جرى الحديث عن صدور أول التقارير الكندية التي تتناول بالتفصيل إمكانات الهيدروجين الطبيعي كمورد ناشئ، هذه التقارير التي كانت جاهزة منذ سنة (أي في 2013)، أعدّها فريق بحث من المعهد الوطني للبحوث العلمية (INRS)، تحت إشراف البروفيسور جاسمين رايموند والأستاذ المساعد ستيفان سيجورنيه، رئيس شركة “Enki GeoSolutions”، حيث يوثّق فريق البحث حالة المعرفة الجيولوجية والجيوفيزيائية والجيوكيميائية للهيدروجين الطبيعي بالاعتماد على مراجعة شاملة للأدبيات العلمية، كما يقدم عرضا عن التطورات في أماكن أخرى خارج منطقة الكيبك الكندية، وهي ستة تقارير بحثية ممولة من وزارة الاقتصاد والابتكار والطاقة للكيبيك (MEIE).
5- في نهاية شهر ماي 2024، تحدث منصة “Hydrogen Insight” عن النتائج المذهلة، كما وصفتها بهذه العبارة، لاكتشاف هيدروجين طبيعي بنقاء يصل إلى (95,8%) في موقع حفر في جنوب أستراليا، وهي النتائج التي أعلنت عنها الشركة الأسترالية “Gold Hydrogen” وقالت عنها بأنها “كمية هائلة” من الهيدروجين والهيليوم الطبيعيين.
6- وفي شهر فيفري 2024، نشرت الجمعية الجيولوجية البريطانية بحثا لمجموعة من الباحثين تحت عنوان “أداة استكشاف جديدة في البحث عن الهيدروجين والهيليوم محليّا” والذي يستعرض نهجا متكاملا ومتعدد التخصصات لاستكشاف الهيدروجين الطبيعي.
المحصّلة
تقدّر هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن ما بين عشرات الملايين وعشرات المليارات من الـ”ميغا طن” من الهيدروجين الطبيعي موجودة في التجويفات الجيولوجية لباطن الأرض. الكثير منها سيكون غير متاح للإنسان، إمّا أنه يوجد على أعماق بعيدة جدًا أو موجودا بجيوب وتجويفات تضم كميات صغيرة جدًا، يكون استخراجه مستحيلا أو مُكلفا جدا أو لا يمكن حتى استغلاله، لكن ما يمكن الوصول إليه تحت سطح الأرض من الهيدروجين الطبيعي يمكنه أن يُلبي احتياجات العالم من الطاقة لمئات السنين أو ربما بسلم زمني أعلى (آلاف)، وتوجد العديد من المواقع والشقوق تحت السطح في عديد جهات العالم، كمثل تلك التي جرى تحديدها في فرنسا وألمانيا وروسيا والقارة الأفريقية، ويُشار إليها بأنها يمكنها أن تنتج هيدروجينًا طبيعيا.
وعلى أية حال، ما تزال موثوقية المعرفة بخصوص الهيدروجين الطبيعي محدودة، والجهود المبذولة لتطوير هذا المورد ما تزال في مراحل الاستكشاف الأولى في جميع أنحاء العالم. كما أن تحديد أفضل السبل للوصول إلى هذا الهيدروجين يبقى عملا دؤوبا وشاقا ومستمرا.
مع ذلك، بدأت بعض البلدان في تكييف أطرها التنظيمية تحسبًا لإستخراج واستخدام هذا المورد الطبيعي على أوسع نطاقًا، و لا سِيَّما في فرنسا وأستراليا.
ولعل هذا الصعود المثير والإهتمام المحموم بـ”الهيدروجين الطبيعي أو الجيولوجي أو الأبيض أو الذهبي” يستدعي منا “بعث برنامج وطني” لإستكشاف هذا المورد الطبيعي على امتداد مساحة الجزائر الشاسعة، الكامن في باطن أرضها خيرات وفيرة ومتنوعة، وأملنا أن نشهد بروز دلائل لمواقع “الهيدروجين الطبيعي” مؤشر عليها فوق “خريطة الجزائر” ضمن فسيفساء الكمونات العالمية للموارد الطبيعية للهيدروجين الجيولوجي، الذهبي وحتى البرتقالي .. وليصطبغ مستقبلنا بالذهب بإذن الله.