ثقافة

كواليس الساعات الأخيرة في وزارة الثقافة

دخلت بن دودة مكتبها الذي قضت فيه أكثر من عام ونصف وزيرة على قطاع ثقافي معقد ومركب.. تهالكت على كرسيها الوثير، متأملة منظرالجزائر الخلاب الراكض بجماله من نافذة مكتبها.. قضت ليلة معلقة بين الشك واليقين بين القلق والإطمئان، قبل أن يتم إزاحتها من المنصب وهي التي تلقت وعود خفية من جهات نافذة بأنها باقية،تلك الجهات التي نسجت خيوطها مرة بذكاء وفي مرات أخرى بأساليب إغواء مريب.

تحضرت لتسليم المهام بروح ثقيلة ومنكسرة، لم يطرق باب مكتبها في ذلك الصباح المشؤوم بعد أن علمت أن العليين أنهوا مهامها سوى مدير ديوانها السابق والذيعملت المستحيل حتى أقالته وهو الذي عشعش سنوات طويلة في كنف الوزارة واشتغل مع أكثر من وزير، يعرف كل كبيرة وصغيرة وأدق تفاصيل سير العمل خفاياه وأسراره، جاء لتوديعها وشكرها… لم يأتي أحد سواه، تفاجأت بالأمر كانت تنتظر طلائعمن كانوا الأقرب إليها خاصة أولئك الذين جاءت بهم من النسيان وألتقطتهم من الخمول والكسل واللافائدة.. كان أكثر من تفاجأت بعدم حضوره ذلك المهرج..تذكرت أنه كان دوماينط ويقفز كالبهلوان، ويلوح لها بأنفه المعكوف، ويحاول جهده إضحاكها بنكته السامجة.. حز ذلك في قلبها وآلمها، ومر برأسها قتالها الصامت من أجل تثبيته ووضعه ضمن الصفوف الأماميةلمستشاريه الأوفياء، أعطته الفرصة تلو الفرصة، رأت فيه صورة ناصعةلجيل صاعد مكتو هامشي ومغبون، روائي قادم من مناطق ظل لم يفقد حتى لهجته البدوية، ولكنه أنمحى في تلك اللحظة القاسية التي عبرت سماءها وتلطخت الصورة بالغبش والغبار.. أكتفت بإبتسامة خجولة للمدير وكأنها كانت تقول له معذرة لم أكن أعرف.

هذه هي الأقدار المعتمة للسلطة، لا يمكن لأي أحد أن يتوقعها، أو يعرف كيف تصنع أو تقرر، ومهما كنت تحسب أنك نفذت في عمقها أو غرقت فيها أو عرفت بعض تفاصيلها أو تمكنت منها ففي الغالب يكون ذلك إلى وقت معلوم بعدها هي التي تمتلكك ثم ترمي عندما تسنتفذك، وترشى عظامك، وتنتهي مهمتك أكان أداؤك حسن أو سيء، أقدمت روحك فداءها أم خنتها في لحظة قوة ثم أضعفتك في أول إختبار.

فشلت الوزيرة في بعض من هذا وفي تقدير الكثير من الأمور، ففي الوقت الذي تفاجأ العديدين بتعيينها لم يتفاجأ أي أحد بتنحيتها، رغم حضورهاالمكثف الذي تصاعد بشكل لافت في الآونة الأخيرة في العديد من المواقع الإلكترونية وبعض وسائل الإعلام، وهي ظهورات صبت في معظم الأحيان في برقيات تعازي وشكر تنقل مباشرة من تغريداتها وصفحتها الفايس بوكية.

كونت طاقم تجاذبه القيل والقال، ضمت في فريقها الكاتب والإعلامي أحميدة عياشي، حتى أنها تلقت تهنئات غامضة وتبريكات من السلطة على هذا الأمر الذي رأوا فيه ضربة مفيدة لإحتواء معارض ووضعه تحت النظر والجناح الوثير.. نجت من مقصلة التغير سنة 2020.. أتركوها فهي لم تتذوق بعد حلاوة الكرسي والنفوذ والسلطة.. أتنظمت لها لقاءات على قهوة وشاي و”قاتو” للتعارف والتقرب أكثر من الفاعلين في الحقل الثقافي والفني.. كانت اللقاءات متنوعة ومتعددة حضر من حضر وغاب من غاب.. كانت في أول تلك اللقاءات تصيخ السمع وهي مدهوشة ومصابة بالدوخة والذهول والطموح اللامحدود لفعل شيء في رقعة الثقافة المغبونة والمهزومة.. الكل يتسابق نحوها، ويحاول أن يعرض أفكاره ورؤاه وطموحاته.. راقب المهرج السباق المحموم ببطء وتؤدة وحيل، وبدأ ينسل من الزاويا وتحت الظل وينفذ عبر المسامات والهفوات.. وجد السبيل الأمثل إلى الدائرة الضيقة للوزيرة المثقلة بالمنصب عن طريق التخفيف عليها.. تستقبله في لحظة التعب والإرهاق يأخذها إلى سيرك الضحك والكلام والنميمة على مجالس الأدباء والكتاب والمثقفين،ومن حين إلى آخر يطعم هذه الجلسات بتقولات وأكاذيب ومفتريات.. يسهر الليالي الكالحات يتسقطكل ما يكتب عن الوزيرة خاصة في السوشايل ميديا ومن أفواه الإطارات حتى ولو كان في صالحها ثم يلفها في قبضتها ويقلب العبارات ويتلاعب بالجمل ويغير الفواصل ويحول الكلمات إلى سهام وسيوف وخناجر ويقدمها على طبق إلى الوزيرة محذرا إياها من فلان وعلان الذين لا يحبون الخير للثقافة.. أعداءها قال لها مثلما تسرب من خفايا هذه الجلسات.. زين ما يقوم به في عيونها وغدت تنظر بحذر إلى محيطها وكل من تتوسم فيه لمحة ما.. أتت ثمار ما كان يفعله أكلها، فأزاح صاحب مشروع مجلة “إنزياحات” وألب القريب والبعيد على عددها الأول.. استحوذ على المجلة وطار بها وأعطى الوعود أن ينحرف بها إلى أفاق أخرى لامعة متميزة فاخرة غير أنها خرجت باهتة لا يسمع بها سواه ومن يكتبون فيها، أوصلها إلى شط مضطرب حتى أن العديد من الكتاب الذين أسهموا فيها لم يتلقوا بعد مكافأتهم بل سكر هاتفه وأغلقه في وجوههم.

وفي كل هذا لم ترى الوزيرة بدا من تمزيق الصورة.. هي عثرات قالت يمكن أن يقع فيها أي شخص جديد يعطى مسؤوليات جسام، بل أرجعها المهرج إلى نوايا الأعداء المتربصين وراء الستار وغيرة رجال ونساء السوق الثقافي، وكمكافأة له أقترحته مديرا للكتاب والمطالعة العمومية لم يعمر طويلا أكتشفت أنه مفلس لا يمكل رؤية أو مشروع أو إستراتيجية، بدأت ملامحه الحقيقية تظهر شيئا فشيئا، ولكن بعد أن فات الوقت وأنقضى من عمره عام وأكثر.

تحمل المشهد الثقافي الويل والثبور والضياع وغابت روحه، تفتت إلى قطع، وأنهكته العطالة، وتفسخت من حولها الأعطاب، فلم يعد الكاتب يؤمن بما يكتبه، ولم يعد السينمائي يعرف ماذا يفعل، وبقي الفنان طريح فراش الوهن والمرض يصارع ويقاوم… حاولت الوزيرة جاهدة تخطي المحن.. طرطشت بعض المشاريع ونجحت فيها، وأغلقت على بعضها، فالوضع ليس هينا وسهلا،وزاد تبددها في نعيم السلطة من “لادوز””تاع” الغرور، وفقدت معه حسها الثوري والفلسفي والنقدي والموضوعي الجريء الذي كان من المفترض أن يكون “لوكومتيف” لمعالجة الخلل والركون، بقيت رهينة كغيرها من الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الثقافة، أيدي الإدارة وصراعاتها وتجاذباتها ومنافعها.. ومنذ تلك اللحظة غلبت الميزان لصالح دائرتها الضيقة ومصالحهم وكان فيها طبعا بالقوة والفعل مهرجها.

لا يمكن بأي حال تقيم أثرما خلفته الوزيرة بن دودة على الوزارة فهي كمن سبقوها ستقول قدمنا الأفضل والأحسنوهو لا يشبه في أي شيء ما قدمه غيري، ولكنها طوال أكثر من عام ونصف خضعت لأصوات تأتي من جهة واحدة لا تؤمن بالتعدد ولا بالمختلف.. خرجت مهزومة وأحست بها في لحظة فارقة من حياتها، وبقي الوضع على ما هو عليه وليست الأمثلة منعدمة للبرهنة على ذلك بل في اللحظة التي سقط  فيها خبر إقالتها كان خبر آخر يخترق مبنى الوزارة ألا وهو تثبيت مهرجها في مقامه المقدس.

وإذا كان من نصيحة للوزيرة الجديدة كي لا تقع مضغة سلسلة وسهلة بين الأنياب،فهي أن تفتح نوافذها على الرياح القادمة من الجهات الأربع وتشرعها بثقة وإطمئنان ولا تخاف من سنة التغير والتبديل والتنقيب عن الأفضل والأحسن بين نخب النساء والرجال، وتقدم على مسح المحيط المتكلسعلى الأبواب والمكاتب وزاويا المبنى الضخم للوزارة، وأن لا تكتفي بذلك بل تسيطر على العقول بالتفرد والمشاريع الملهمة، وتكشط الصدأ المترامي من أول درج إلى عتبات مكتبها، وتطلق النار على المهرجين الذين سيحاولون جرها إلى بهلواناتالأوهام، وتنزل إلى شارع الفن والثقافة مفرغة من الأفكار المسبقة سلاحها الوحيد هو حسن الإصغاء والتدبر ثم الإندفاع، ولو كان عليها أن تخطئ فليكن خطأ جديد لا أن تكرر أخطاء قديمة.

مساهمة: أبوبكر زمال / كاتب

متعلقات

‫2 تعليقات

  1. لو انك امتلكت شجاعة ذكر اسم المهرج لاصبح ت هذه الخربشات تستحق ان توسم بالمقال غير ذلك فماهذا الا حكاية من حكايات طيابات الحمام.

  2. كان يمكنك أن تختصر الطريق وتهاجم من وصفته بالمهرج مباشرة مثلما سميت حميدة العياشي دون مواربة لكنك أجبن من أن تفعل، لا جملة مفيدة في النص، مجرد هجوم عشوائي هو نتيجة متراكمات سنين من الغيرة والحقد على كاتب أعتبره أنظف من أن يجتمع اسمك باسمه في جملة واحدة.
    سبق برس راقبوا الصحة النفسية والعقلية لمساهميكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى