أعمدة الرأي

المُندسون في حاشية بوتفليقة أخطر من العلبة السوداء

 

لم أستغرب على الإطلاق للحملة الشرسة التي شنّتها بعض الأطراف المُعارضة لقانون المالية لسنة 2016، برغم “الهيلولة” الإعلامية التي صاحبت هذه الحملة، وما تخلّل الحملة من سيناريوهات لم يألفها المجلس الشعبي الوطني “البرلمان”، كرفع اليافطات الرافضة لهذا القانون، وذهاب البعض إلى حدّ الإشتباك بالأيدي. قُلت لم أستغرب لكلّ ذلك، ليقيني أن العديد ممّن يُجاهرُون بمُعارضتهم لقانون المالية لا يفقهون أي شيء في أمور الإقتصاد والمالية، وأكثر من ذلك كُلّه أن هؤلاء لا يعلمون رُبّما أن الرئيس بوتفليقة من خلال هذا القانون، أعاد عقارب الساعة إلى فجر الإستقلال، لتصحيح وتقويم الإعوجاج الذي ألحقته السياسات المُتتالية منذ الإستقلال وإلى غاية وفاة الرئيس الراحل هواري بُومدين يوم 27 ديسمبر 1978، والتي تواصلت بعض تداعياتها إلى يومنا هذا. قد يقول البعض إنني أهرب إلى كواليس التاريخ لإيجاد مُبرّرات لما يقوم به الرئيس بوتفليقة، ولكن، واقع الحال يفرض على أي باحث أكاديمي أن يُشرّح بشكل علمي أسباب أي ظاهرة نعيشها اليوم، ولا يخفى على الجميع أنه مُباشرة بعد الإستقلال عايشنا ما سمّاه بعض قادة الثورة آنذاك ب “سياسة الإنتقام” التي خطّط لها الرئيس هواري بومدين وهو وزيرا للدفاع في حكومة الرئيس الراحل أحمد بن بلة، وجسّدها بأبعادها الكبيرة، عندما صار رئيسا للجمهورية، فالرئيس هواري بُومدين سعى للإنتقام من “القياد” وأصحاب الأراضي الفلاحية الشاسعة، فجرّدهم من أراضيهم، وأقام التعاونيات الفلاحية التي كانت تُوزّع الأرباح على الفلاحين والعمال برغم أنهم أفلسوا الأراضي الفلاحية وحتى المعامل، وغالبية الجزائريين كانت تُصفق وتُطبّل لقرارات الرئيس هواري بومدين، لأن الإستفادة بغير وجه حق طالت هؤلاء، وليث الأمور وقفت عند حدّ توزيع الأرباح وكفى، لكنّها تعدّت ذلك إلى تدمير مُمنهج للقطاع الفلاحي وغيره، وبمُجرّد أن مات الرئيس هواري بومدين، في السنة التي بدأ يعي فيها أن “جماعة فرنسا في الجزائر” قد ورّطته، وأنه يتوجّب عليه إعادة تصحيح مسار البلاد، -وهو التصحيح الذي رفضت جماعة فرنسا تحقيقه وبادرت بتصفيته، بل وحتى أنها تآمرت للحيلولة دون تولّي بوتفليقة رئاسة البلاد- قُلت مُباشرة عند وفاة هواري بومدين وانطلاق الرئيس الشاذلي بن جديد في سياسة الإنفتاح على الخارج، اصطدمت البلاد بالواقع، وتبّين أن ما كُنّا نعيشه ما هو إلا واجهة مغلوطة لا غير، وبذلك وبعد 10 سنوات من وفاة بومدين، إندلعت أحداث أكتوبر 1988، التي أُريد لها أن تكون جسرا للإنتقال الديموقراطي، لكنها بواقع الحال هيّأت الظروف إلى عصر الإنقلابات، والزّج بالبلاد في أتون حرب إرهابية، أتت على الأخضر واليابس، ومكّنت ضبّاط فرنسا من الخروج إلى الواجهة، والأخذ بزمام الأمور بشكل مُباشر. هنا يتوجّب القول أنه حتى المكاسب التي حقّقتها الجزائر في عهد الرئيس هواري بومدين، وأخص بالذكر، الصناعات الثقيلة، والصيدلانية والإلكترونية، بدأت تتهاوى، بفعل الوضع الأمني المُنهار، والمُؤامرات التي كانت تُصاحبه من قبل البورجوازية “الكُومبرادورية” التي لا تُؤمن بإنتاج الثروة وليست لها وسائل إنتاج الثروة، والتي تتهافت على تحقيق الربح السريع ولو أدى ذلك إلى انهيار البلاد. وهو ما سعى رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش لاستدراكه وتصحيحه من خلال سياسته الإصلاحية، التي أراد تطبيقها، لكنّ إرادة العُلبة السوداء كانت أقوى من إرادته، فأجهضت مشروعه، وزجّت بالبلاد في أتون حرب إرهابية دمّرت البشر والشجر والحجر. يجب التأكيد هنا أن السيد حمروش انطلق فقط في تكريس الإصلاحات من الجيل الأول في القطاع الإقتصادي والمالي، ولم يُغامر بشكل جدّي في مُباشرة الإصلاحات السياسية، لوعيه ربّما أن المُغامرة ستكون كارثية بالنسبة إليه، لكن هذا ما حصل بالفعل، لأن العُلبة السوداء كانت تُتابع بدقة مسلسل هذه الإصلاحات، ووضعت الخطوط الحمراء التي أحرقت الشاذلي وحمروش، أو بالأحرى أغرقت الطرفين معا في لُعبتها، وأغرقت البلاد فيما نعيشه اليوم. أقول أغرقت البلاد في الكارثة، لأنّ البلاد لم تعد غارقة في مشاكلها الإقتصادية والمالية، بل إنّها أصبحت آنذاك مُهدّدة حتّى في وُجودها، وهنا يتوجّب أن نُعيد لله ما لله وما لقيصر إلى قيصر، ونقول بوضُوح أن المُؤسسة العسكرية بالدرجة الأولى، تتحمّل المسؤولية الكُبرى لأنها وعوض مُعالجة الوضع بما يضمن تهدئتهُ، دفعت به إلى التصعيد، من خلال إزاحة الشاذلي بن جديد، وتمكين أحد أكبر ضُباط فرنسا وأعني به الجنرال خالد نزار ومن معه من أخذ الجزائر ككل إلى حرب حصدت أرواح آلاف الجزائريين. اليوم ومع تصاعد صُراخ خدَم العُلبة السوداء، التي فقدت مُديرها ومسؤولها الأول، يُحاول هؤلاء، إعادة تنفيذ السيناريو نفسه، برفع الشعارات الرافضة ل “تجويع الجزائريين”، في مُحاولة رُبّما لتحضيرهم ل”الذبح” من جديد، وهنا كذلك أُذكر الجميع بأن الرئيس بوتفليقة الذي جسّد المُصالحة الوطنية، وأعاد السلم والأمن للجزائر، في وقت كانت فيه العُلبة السوداء تضع ما شاء لها من عراقيل في طريقه، وتفرض عليه القبول بتنصيب بعض بيادقها في مناصب المسؤولية، هذا الرئيس، أي بوتفليقة الذي نجح في تفكيك شيفرة هذه العُلبة، وأزاح الرُّؤوس المتحكمة في أزرار التحكم فيها، لا أظن أنه سيقبل اليوم بإجراء أية مُساومات أو مُقايضات، لضمان بقائه في منصب، استغله بعقلانية كبيرة لتخليص البلاد من سُلطة الأشباح، لينتقل بها إلى الأجيال الأخرى من الإصلاحات، التي تُشرك المواطن الجزائري في صنع القرار، وتفرض عليه كذلك تحمل تبعات الإصلاح، كون الجزائر لم تنجح إلى يومنا هذا في تكريس مبادئ الجيل الأول من الإصلاحات الإقتصادية والمالية خاصة، لأنّ العلبة السوداء كانت ولا تزال، هي من تتحكم في سيرورة الأمور، وترفض أن تمُرّ العملة الصعبة عبر البنوك، وتُوجّهها إلى أسواقها السوداء في بو سعيد وغيره إلى اليوم، فكيف والحال كذلك، أن يطمئن المستثمر الأجنبي على أمواله في ظل سيادة سلطة العلبة السوداء؟ للأسف الشديد أنه وليومنا هذا لا يزال البعض ممّن يتخندقون بالباطل في صفّ الرئيس بوتفليقة، يحاولون حرف مسار إصلاحاته، بوضع العراقيل في وجه الإستثمارات الأجنبية، بوضعهم للعراقيل السياسية وغيرها، وعلى رأسها عدم تفعيل الديبلوماسية الإقتصادية في ممثلياتنا في الخارج، والأخطر من ذلك، أنّنا لم نُصلح إلى يومنا هذا منظومتنا المالية، وهي المنظومة التي تُشكّل أولى إهتمامات المُستثمر الأجنبي. والحال كذلك، أستغرب كيف أن بعض أحزاب المُعارضة لم تلتفت إلى أُمّهات القضايا، واقتصرت فقط على التهويل من تبعات قانون المالية، الذي لا يُمثل بالنسبة لي إلا محطة للنقاش واستشراف ما ينتظر البلاد في قادم الأيام، في ظل استشراء الجهل سواء في المُعارضة أو بعض المسؤولين في السلطة، الذين هرولوا في محاولة لجلب استثمارات حتى من الولايات المتحدة الأمريكية، وهنا أحذّر الرئيس بوتفليقة من الإبقاء على بعض المسؤولين الذين لا يفقهون أبجديات حتى الجيل الأول من الإصلاحات الإقتصادية والمالية في مناصبهم، لأنّ هؤلاء سيكون خطرهم ربّما أخطر من العلبة السوداء.

 عبد القادر حبيبي

محام وخريج معهد الدراسات الدبلوماسية والاستراتيجية بباريس

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى