أزمة البرلمان ورسالة إعادة التفكير في طبيعة الدولة
كشفت لنا أزمة البرلمان الأخيرة مدى ضعف الفكر والنقاش السياسي في بلادنا، فبالرغم من أن السعيد بوحجة أرسل رسائل سواء عن قصد أو دونه يشير فيها إلى أن المؤسسات تعيش أزمة حادة، فلا وجود لفصل السلطات ولا توازن فيما بينها، وأن هناك طغيان السلطة التنفيذية على كل المؤسسات والسلطات الأخرى، وقد أشرنا إلى هذه المسألة في عدة مقالات وكذلك حواراتي التي أجريتها حول قضية بوحجة، ومنها حواري مع يومية الخبر عدد(04أكتوبر2018)، ودعوت فيها الطبقة السياسية والمثقفة إلى عدم الإكتفاء بتتبع مسار الأزمة وإنعكاساتها فقط، بل ضرورة إستغلالها لطرح نقاش حول مسألة فصل السلطات والتوازن فيما بينها، بل لما عدم التفكير في مؤسسات جديدة تكون أكثر فعالية؟، لكن لاصوت لمن تنادي، وهو ما يدل على إنهيار سياسي كبير في الجزائر سواء في الخطاب أو البرامج أو مستوى النقاش، فكأن كل الصراع يدور حول المناصب ومن يتولاها، فكأن السياسة عندنا هي التكالب على المناصب بتوظيف كل الأساليب اللاأخلاقية متناسين أن السياسة عمل نبيل وهي قبل كل شيء مرتبطة بالفكر وبإيجاد الحلول العملية وطرح أفكار تطويرية للمؤسسات وللحياة الإقتصادية والسياسية والثقافية، وهدفها كله بناء البلاد وتحقيق رفاهية المواطن.
فإنطلاقا من مبدئنا هذا، نعيد من جديد طرح فكرتنا حول السلطة التشريعية في الجزائر التي وضحناها بالتفصيل في كتابينا “النظام البديل للإستبداد- تنظيم جديد للدولة والإقتصاد والمجتمع-” وكذلك في كتابنا “ربيع جزائري لمواجهة دمار عربي” دون أن ننسى الكثير من المقالات والدراسات التي نطرح فيها نظام مؤسساتي آخر للجزائر يكون ضامنا للحريات الديمقراطية وللعدالة الإجتماعية إنطلاقا من أسس ومباديء ثورتنا الجزائرية التي نصت على الدولة الديمقراطية والإجتماعية سواء في نداء أول نوفمبر أو أرضية الصومام، لكنها تحتاج اليوم إلى آليات وميكانيزمات لوضعها موضع التنفيذ والتطبيق العملي.
من بعض هذه الأفكار إلى جانب أسس أخرى لنظام سياسي وإجتماعي بديل، نجد دعوتنا لإعادة النظر في تشكيلة البرلمان، فيصبح التمثيل فيه على أساس شرائح المجتمع وفئاته كلها بدل التمثيل المبني على أساس دوائر إنتخابية يمكن أن تكون الكثير من شرائح المجتمع غير ممثلة فيه، كما يمكن مثلا أن تسيطر عليه فئات فقط دون أخرى التي لاتجد من يدافع عن مصالحها ويطرح إنشغالاتها، فيجب على كل شرائح وفئات المجتمع بما فيهم البطالين ورجال المال وغيرهم أن ينتخبو ممثلين لهم في البرلمان، وذلك بإعتماد كل شريحة إجتماعية كدائرة إنتخابية، ويكون عدد ممثليها في البرلمان حسب العدد المنتمي إلى هذه الشريحة.
لكن هذا غير كاف إلا إذا أمتلك كل ممثلي شريحة أو فئة إجتماعية حق الفيتو في كل مشروع قانون يخصها، ويمكن أن تتفاوض مع السلطة التنفيذية في حالة ضرورة الحفاظ على توازنات، أما إذا تعلق القانون بمصالح عدة شرائح وفئات إجتماعية، فيتم التفاوض حوله بتنازلات فيما بينهم لحفظ مصالح الجميع، وبهذا الشكل يتم نقل الصراعات الإجتماعية التي تشل الحركة الإقتصادية بفعل الإضرابات إلى مبنى البرلمان، لكن هذا لايكفي لتحقيق مصالح كل شريحة إلا إذا بقيت مصالح ممثليها في البرلمان مرتبطة إرتباطا وثيقا بمصالح شريحتهم الإجتماعية، مما يجعل كل ممثل أو نائب برلماني الذي يعمل من أجل مصلحته الإجتماعية، سيحقق بوعي أو دون وعي منه مصلحة الشريحة الإجتماعية التي يمثلها، ولا يتم ذلك إلا بإلغاء كل الإمتيازات لهؤلاء الممثلين والنواب بحكم تواجدهم بالبرلمان بإستثناء الحصانة التي تكفل له حرية النقد والتعبير والممارسة.
ولكن لمواجهة خطر شراء هؤلاء النواب الممثلين للشرائح الإجتماعية من أصحاب المال أو من السلطة التنفيذية يجب تفعيل ميكانيزمات عملية مبدأ “من أين لك هذا؟” ويطبق على الجميع، وهو المبدأ الذي الذي كثيرا ما يردد أنه مبدأ جاء به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، لكنه ما يستغربه الباحث هو تغييب أي ذكر لهذا المبدأ منذ بدايات الثمانينيات في الوقت الذي وجد تطبيقا عمليا في عدة دول في الغرب.
لكن نعرف دائما من يعرقل كل فكرة جديدة تهدد مصالحه بدعوى أنها طوباوية أو أنها غير عملية، كما يقول آخرون أن الجزائر لم تستطع حتى إقامة نظام ديمقراطي عادي الموجود في دول العالم، ونحن نطالب بنظام أكثر رقيا، فليعلم هؤلاء بأنه يمكن لنظام أكثر تخلفا أن نستبدله بنظام أكثر رقيا وتقدما، ففرنسا عشية ثورتها في 1789 كانت تعيش نظاما عتيقا جدا مبنيا على الحق الإلهي المقدس وجد متخلف بالنسبة لدول أخرى، لكن ثورتها تمكنت من تجاوز كل هذه الأنظمة آنذاك بخطوات كبيرة حتى أصبح نموذجا يقتدى به، ففرنسا ثورة 1789 تمكنت من تجسيد فكرا سياسيا أقره منذ عقود مونتيسكيو بفكرته حول فصل السلطات ثم جون جاك روسو من خلال فكرته “سيادة الأمة”، فلم يدخل مونتسيكيو ولا روسو ولاغيرهم في التفاصيل التقنية لتجسيد هذه الفكار السياسية، بل تمكن الفرنسيون من وضع كل الآليات والميكانيزمات التقنية لوضعها حيز التفيذ، فالفكر السياسي يطرح فكرته في عمومها، ويضع أسسها الفلسفية، فيأتي التقني السياسي لتجسيدها، وعلى رأسها رجال القانون وفقهائه.
لا نعتقد أنه صعب علينا إعادة النظر في طريقة عمل البرلمان الجزائري وتركيبته، وطبعا مانطرحه في هذه الفكرة تحتاج إلى نقاش أوسعن كما يجب علينا ربطها بأفكار أخرى وضحناها بالتفصيل في العديد من كتبنا ومقالاتنا، فكل نظام سياسي يضم عدة مكونات ومؤسسات متكاملة ومتناسقة فيما بينها في شكل متوازن وفعال، بل حتى بإمكان الحركات الإجتماعية والنقابية أن تحول هذه الفكرة إلى مطلب رئيسي وجوهري لها لحل مشكلة العدالة الإجتماعية بدل ماتطرح كل حركة مطالب هامشية لاتذهب إلى حل جوهر المشكلة الإجتماعية والسياسية.