أعمدة الرأي

أغاليط (بروفيسورية)

انتهج الكاتب الذي يعز عليه الظهور بغير مظلة (بروفيسور ) منهج الأغاليط ، في عرض وجهة نظره حول مسألة لا تعدو أن تكون أحد مظاهر التسيب والفوضى التي تطبع حياتنا في كل المناحي والمستويات .
ولنا مع أغاليطه وقفات فيما يأتي ذكره ، وقبل ذلك نسجل ملاحظتنا : أنه فاضح الانحياز للتيار الاستئصالي التغريبي ، وهو الأمر غير الجديد كما سنبرهن عليه إن شاء الله تعالى
1-  – مسألة ثورية جمعية العلماء المسلمين التي أقحمها -بغرض أيديلويجي -لا خفاء فيه ، ومن غرائب الزمان أن ينبري من يستظل بمظلة (بروفيسور ) في التاريخ في هذا الوقت أي في منتصف منتصف عقد القرن الواحد والعشرين لرمي جمعية العلماء بفرية تخاذلها عن الانطلاقة الثورية : وهي فرية باتت مدعاة لكل سخرية ورثاء لمن ما زال يلوكها ويطلقها في فضاءات لم تعد تطيقها فضلا عن أن تحتويها ؛ لقد قامت أدلة وفيرة صار يعلمها العموم فضلا عن الخصوص حول الدور الرئيس للجمعية ورجالها في الإعداد للثورة وانطلاقها ، على نحو مشرف جدا قلما يرقى إليه موقف آخر -خصوصا- إذا وسعنا مفهوم الثورة -كما سنذكر – لقد تواترت الشهادات حول – مثلا -التنسيق المحكم بين أسد الأوراس الشهيد مصطفى بن بولعيد -رحمه الله ونعمه في فراديس الجنان – مع الشيخ الشهيد العربي تبسي -رحمه الله ونعمه في فراديس الجنان- إذ كان معه على صلة في تنقلاته للمشرق وجلب السلاح عبر إقليم تبسة ، وبمساهمة بعض رجاله الذي صنعوا ملاحم الثورة بعدئذ في معارك كمعركة الجرف . و اتخاذ الشهيد الكبير الشيخ الشهيد مرجعية دينية للثورة ؟!
وفي هذا الصدد بين يدي شهادة تاريخية مخطوطة لأحد رجال الثورة الكبار في تبسة هو الحاج علي مسعي رحمه الله ورد بها كثير الوقائع التي تقوي هذا الحقيقة التاريخية .
و ولولا الغشاوة الأيديولوجية كيف غُم عليه البيان الذي أصدره الشيخ الإبراهيمي -رحمه الله – في القاهرة في 2\11\1954 لنصرة وتأييد الثورة ؟ ودوره الرائد في العمل لها على مستويات عدة من بينها أحاديثه في صوت العرب بالقاهرة ، والعلاقات التي نسجها مع رجال الثورة وزعمائها السياسينن في القاهرة ؟
ولولا الغواية الأيديولوجية ، كيف عشى بصره عن آلاف الطلاب من الجمعية الذين ازدانت بهم ساحات المعارك ، وضمخوا أديم الحرة العزيزة بدمائهم الطاهرة؟
ألم تصدر جمعية العلماء في عهد الشيخ شيبان رحمه الله كتابا تكفل برد هذه الفرية ، وإسقاطها في مجاري الصرف الصحي؟!
2-  – يقتضينا المقام – كما قلنا- الوقوف عند دور الجمعية في الثورة إعدادا وانخراطا ومركزا وأسبابا ونتائجا ، وهذا لا يستقيم إلا بتوسيع دائرة مفهوم الثورة : الذي عملت الجمعية على هداه وفق الرؤية الباديسية الحكيمة ، التي مفادها : أن مرحلة التفجير الثوري لا تستقيم إلا بإعداد روحي وعلمي وثقافي قامت به الجمعية أفضل قيام ، وقد كان الشيخ ابن باديس – رضي الله عنه – مدركا كل الإدراك واع كل الوعي لهذا المسار مذ جمع عام 1921 ثلة من علماء الجزائر الذين يثق فيهم وسمي اللقاء (لقاء الرواد) ، فخطب فيهم خطبة نفيسة شخّص فيها حال الجزائر تحت الاستعمار وشبه وضعها بالأندلس.
وتضمنت رؤية استراتيجية لمراحل الثورة بدءا من الثورة على الجهل والأمية والتحريف الاستعماري ، والوقوع في براثن التحريف الطرقي المُمالي للاستعمار ، وانتهاء بمرحلة الثورة بمعناها المسلح [ الوثيقة في مذكرات الشيخ خير الدين رحمه الله تعالى ] .
– أليس من المريع أن يصدم باحث روح الفكر المنهجي والبحثي ؛ حين يتجاهل التراث الفكري الباديسي ، فلو كلّف نفسه مؤنة التحقيق والتحليل فسوف يقف على حقائق مذهلة في تطور فكر الشيخ رحمه الله على ضوء تطورات الأحداث، والذي تمثل فيه الثورة قسمة بينة صارخة إلا من لفّت بصيرته ظلمات الأيديولوجيا العفنة . فمثلا لو لم يقل ابن باديس إلا مقولته الشهيرة (لو قالت لي فرنسا قل : لا إله إلا الله لما قلتها ) لكانت أعظم برهان على التوجه الثوري للشيخ رحمه الله .
ولا يجهلها إلا من كبر عليه إدراك هذه المعاني ودلالتها الصارخة ، أما كان له الوقوف على شهادات كثير من طلاب الشيخ ومريديه من مواقف كان الشيخ يتشوف فيها للثورة ؛ من ذلك حين مروره يوما بجبال الأوراس وتأمله فيها ثم قوله : ( لو أجد ثلة من الرجال الصادقين لأعلنت الثورة من هذه الجبال )؟ ! والشهادة مذكورة في أحد كتاب الشيخ حماني رحمه الله تعالى.
-3 – كالت الأيديولوجيا البائسة المتحكمة في ( المقام البروفيسوري ) أبشع التهم للمدرسة الجزائرية ، كونها كانت تحت سيطرة التيار المعرب الإسلامي كما يقول ، وهي تهمة ملأ بها الفضاء التيار الاستئصالي الفرنكفوني الشيوعي الجزائر خلال حقبة التسعينيات البائسة الدامية ، وكان من أكبر عرابيها خليدة مسعودي التي قبضت الثمن المستحق الجزيل .
أليس من بؤس الحال أن تلصق هذه التهمة بالمدرسة التي من ثمارها باحثين وأساتذة على أعلى درجات الكفاءة العلمية ، انبثوا -لأسباب معروفة – في أرقى الجامعات العالمية ، وتبوؤوا أرقى المناصب العلمية فيها ، في شتى التخصصات ، وكذا انبثاث خريجيها من أطباء ومهندسين في مستشفيات ومراكز طبية عالمية ، ومناصب قيادية فيها ؟ هل كان شيئ من هذا سيتحقق لو أن هذه المدرسة كانت على النحو الغريب الذي وصفت به ؟!! أليس من البؤس المضحك أن تُلاك هذه الفرية المتهافتة في هذه المرحلة المتأخرة من سير الزمان حاملا معه نواصع الحقائق ، التي يدركها العموم فضلا عن الخصوص ؟.ألم تُهن العلمية والمنهجية الأكاديمية بهذا الزعم البائس المتهافت ؟!!!
أليس من المؤسف المريع أن يصدم المقام ( البروفيسوري ) المنهجية والموضوعية العلمية صدمة مريعة ، بترديد هذه الفرية التي لم يكن لأصحابها من هدف غير إخلاء التعليم من بعديه العربي والإسلامي أي مهاجمة العربية لسانا والإسلام دينا في معقل العقل والروح (المدرسة) ؟ هل فات الكاتب إدراك تلاعب التيار الاستئصالي بالحقائق ومنها توظيف الأرقام للبرهنة على على ادعاءاته وأغراضه الخبيثة ؟ أليس من م المحزن أن يكتفى باحث (بروفيسور ) بترديد مقولات مهزوزة وهو يكتب للرأي العام وعموم القراء الذين قد تخدعهم العناوين عن الحقائق فيقعون في شرك الافتراء والتزييف ؟
أمّا لو أزال الغشاوة الأيديولوجية عن بصره لأدرك الحقيقة أفسح مما صورت به ،فإن كان كثيرون التحقوا بالعمل المسلح من منسوبي المدرسة الجزائرية ، فقد كان لمعلمي وأساتذة تلك المدرسة وفي مقدمتهم أساتذة العلوم الإسلامية في الثانويات دور مشهود كبير في تعليم التلاميذ الدين الصحيح ، وتوعيتهم ، مما كان مانعا مؤثرا من انجرار المراهقين وراء ما حدث . ولقد واكبت تكل المرحلة أستاذا للعلوم الإسلامية في ثانويات تبسة والحمد لله نفخر بما بذلناه مع أساتذة أفاضل كرام لأبنائنا وبنتانا ، في هذا الصدد .
4- سوف تخجل المنهجية التاريخية العلمية من المقولة ( البروفيسورية) الآتية الذكر أبلغ الخجل : (كأن أباءنا وأجدادنا الذين حافظوا على إسلامهم السمح والمتفتح طيلة 15قرنا خاصة في العهد الإستعماري الفرنسي قد كانوا يدرسون التربية الإسلامية في المدرسة) . أرفع تعزيتي للتاريخ إزاء هذه المقولة : ما موقع المدارس والزوايا والجوامع التي كانت مراكز علمية في حواضر البلاد الكبرى وقراها من هذه الفاجعة ؟!

5-الرؤية الإصلاحية التغييرية التي يحملها فكر المقام (البروفيسوري) ، أحيل بشأنها  القارئ لما كتبته ردا  على مقال له في سياق مناقشة فكرة نورالدين بوكروح حول فكرة (إعادة ترتيب سور القرآن الكريم ) ، وهو قمين ببيان حقيقة تلك الرؤية رغم عدم خفائها في مقاله محل المناقشة:

أما مقال رابح لونيسي ، فأود التوضيح أن له نسختان نسخة الخبر[ 6\1\2015] والثانية نشرت في موقع (الحوار المتمدن \3\1\2015) أحد المنابر العلمانية العتيدة في الفضاء الثقافي العربي . وفائدة ذكر هذه الملاحظة تظهر من الفقرة الأخيرة للمقال بالحوار المتمدن ، ولم تنشر في الخبر ، فهي تمنحنا هدف مقال رابح لونيسي وغايته ، التي دار حولها في مقاله .
فما هي تلك الغاية كي نوفر الوقت على القارئ وعلى أنفسنا ؟ لنقرأ الفقرة دون الحاجة إلى جهد واسع في التدبر : (كما يمكن العمل على نشر فكرة كبيرة أوردها بيان أول نوفمبر، والتي حلت مشكلة الأصالة والمعاصرة،أفلم تطرح الثورة الجزائرية مذهبا دينيا جديدا عندما تقول أرضيتها التأسيسية النوفمبرية ب”ضمن إطار المباديء الإسلامية”، أليس معناه هو الإلتزام بأركان الإسلام والعيش في إطار مبادئه الكبرى دون الخوض في التفاصيل التي نبذها القرآن الكريم، عندما تحدث عن بقرة بني إسرائيل الذين دخلوا في تفاصيل طبيعة البقرة، كما نبحث نحن اليوم في تفاصيل كل ممارسة دينية، وطرح مسألة الحلال والحرام في كل قضية، ألا يمكن للمسلمين اليوم تبنى هذا الطرح النوفمبري المتفتح والأكثر تحررا، والذي ماهو إلا تكرار دون وعي للمذهب الظاهري لأبن حزم الذي يرى كل شيء حلال ما لم يورد فيه نص صريح في القرآن الكريم ) .
فإلى الملاحظات نصير الآن :
1- النصيحة ( لونيسية ) الأولى هي : (ما طرحه بوكروح حول إعادة ترتيب سور القرآن الكريم لا يجب أن يكون محل سجالات أيديولوجية، بل يجب إخضاعه للعلمية والأكاديمية).
السؤال ما مدى التزام الكاتب الحكيم بحكمته وموضوعيته وأكاديميته ؟
الجواب : أين تُدرج أقواله وأحكامه الآتية الذكر؟
– الانصراف عن المناقشة العلمية لموضوع المقال؛ أي إعادة ترتيب سور وآيات القرآن الكريم؟ للانقضاض على العلماء وما يحلو للعلمانيين تسميتهم (رجال الدين )، فيحملهم مسؤولية تخلف المسلمين بسبب هيمنتهم على فهم القرآن وتفسيره وبيان أحكامه ؛ من خلال الأحكام التي تضمنها مقاله كالآتي ذكره :

أ -أن (لرجال الدين ) ! رغبة في بقاء المسلمين جاهلين ، ليحافظوا على امتيازاتهم من سلطة تحكم وتوجيه جماهيري ، وما يحققه لهم من منافع؟
ب – إن نشر القراءة الجماهرية الواعية العميقة ، سيفضى إلى استغناء الجماهير عن الحاجة للعلماء كي يفتوهم ،أي يصير كلَ مفتى نفسه .
ج- التنويه بالإصلاح الكنسي ، ومنه إتاحة الإنجيل للقراءة باللغات الأوروبية . ولذا فنحن في حاجة إلى  “بروتستانتية إسلامية”!
هذه المسائل من يجد فيها رائحة النقاش العلمي الأكاديمي ؟ ومن يفقد فيها طفح الأيديولوجيا؟ إن دعاة التنوير والحداثة يقعون في ما يشنعون به في استعلاء وعنجهية على خصومهم من الضفة المقابلة النقيض لهم.
جـ -الدعوة إلى إصلاح الخطاب الديني بديلا من مخاطر الفتنة العمياء الكبرى التي تجتاح العالم الإسلامي لو قدر لدعوة بوكروح بالعودة إلى الوضع القرآني الأول . والإصلاح المدعو له بالطبع تتضح صورته في (الاجتهاد النوفمبري ) كما فهمه رابح لونيسي ؛الذي يطرح مذهبا دينيا جديدا. ويفيد حسب الاجتهاد (لونيسي ) الالتزام بأركان الإسلام والعيش في إطار مبادئه الكبرى دون الخوض في التفاصيل!! و وسمو الفكرة وعبقريتها تبدو حين تُقارن بسؤال بني إسرائيل عن تفاصيل البقرة التي أُمروا بذبحها ؟!! فكذا نحن اليوم نبحث عن تفاصيل أحكام الشريعة وتفاصيلها ؟ وليريحنا (لونيسي) من وطأة الشك في غربة هذا الحل ، يحيلنا على مرجعية فقهية إسلامية بارزة في تاريخنا الفقهي ، يمثلها مذهب ابن حزم الظاهري ؛الذي يرى كل شيئ حلالا حتى يأتي نص صريح في القرآن الكريم !!!
حجم هائل من السطحية والتناقض ، ولك أن تقول الجهل ولا حرج عليك من التأثم ،كيف ذلك؟
– السطحية : قياس فكرته على فعل بني إسرائيل في ذبح البقرة : دافع هؤلاء لا يختلف في جوهره عن دافع فكرة (رابح لونيسي ) ، فللبحث عن فرجة يتسللون منها تنصلا من أحكام التكليف الإلهي ؛ لغلبة طبعهم المادي عليهم ؛ أخذوا يتلكؤون ويدورون بواسطة السؤال عسى أن يُعفوا من التكليف ، وهذه دعوة تقصى سبل التفلت من الأحكام الشرعية أيضا ، فأي فرق بين الموقفين في جوهرهما ؟
– التناقض : التخوف الذي أبداه من الفتنة العمياء التي يمكن أن تحدثها دعوة بوكروح ، لا تختلف عنها في شيئ دعوة التجديد الإسلامي على النهج  (البقري الإسرائيلي ) !!!
– الجهل : وصوره في المقال كثيرة ، لكن حسبنا القاعدة التي نسبها للظاهرية؛ فمن أبجديات العلوم الشرعية التي يتعلمها صغار المبتدئين فيها قاعد ( إن الأصل في الأشياء الإباحة ، فلا تحريم إلا بنص ) ، وهي ليست خصوصية للظاهرية أو مذهب بعينه . كما ان هذه القاعدة تذهب باجتهاده أدراج الرياح ؛ فلن يستطيع التفلت إذن من تفاصيل الأحكام الشرعية ، التي لا سبيل إلى دركها إلا وفق مناهج الاستدلال والاستنباط العلمية الأصولية ، على أيدى العلماء الثقات المجتهدين الذين بنوا للفقه الإسلامي صرحا علميا باذخا ، انبهر به كبار القانونيين في العالم ، فخصوا ـ- مثلا ـ- الشريعة الإسلامية بكرسي في محكمة العدل الدولية ، حين كان العلماء الأكاديميون هم من يقررون ويفصلون ، وليس الإيديولوجيين الأركونيين الحُداثيين .

 

 

متعلقات

زر الذهاب إلى الأعلى