أعمدة الرأي

الرئاسة والمخابرات.. تسويق معركة وهمية.

قبل نحو عامين نشرت الصحافة أخبار تغييرات هامة في جهاز المخابرات، لم يكن الحدث هو التغيير في حد ذاته بقدر ما كان نشر المعلومة وتداولها على نطاق واسع، فقد ظل جهاز المخابرات أقرب إلى الأسطورة، ولم تكن وسائل الإعلام تتناوله بشكل مباشر رغم تحول في التعاطي معه منذ مجيء عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم سنة 1999.

جرت العادة في الجزائر بعدم تنشر المراسيم الرئاسية التي تتضمن إجراء تغييرات في هذا الجهاز الذي يقال إنه المركز العصبي للسلطة، وصانع الرؤساء، وصاحب الكلمة الفصل في اختيار من يتولون المسؤوليات الكبرى في الدولة، غير أن هذه العادة تم الالتفاف عليها من خلال التسريبات التي تخصصت فيها وسائل إعلام جديدة معروفة بقربها من الرئاسة، فلم تعد للجرائد الورقية تلك السلطة ولا القدرة على نشر الأخبار بالسرعة المطلوبة، فضلا عن أن استعمال السلطة المفرط لتلك الجرائد جعلها غير صالحة لنقل أخبار المرحلة الجديدة.

لقد أغفلت الصحافة الجزائرية، ربما عن عمد، مسألة التسريبات التي كانت تحمل أخبار التعيينات التي تجري في جهاز المخابرات، وعملية إعادة هيكلته، ولم يكلف أحد نفسه عناء طرح الأسئلة الحقيقية حول الهدف من نشر هذه القرارات التي تخص جهازا يتخذ من السرية نظام عمل، لماذا يتم نشر القرارات ويرفض المسؤولون المدنيون والعسكريون التعليق عليها ؟ وما الدافع لإخبار الجمهور الواسع بمثل هذه القرارات في حين يتم التعتيم على كثير من القرارات التي تخص قطاعات مختلفة، وتؤثر بشكل مباشر على مصالح المواطنين ؟

ثمة خيط واحد يقود إلى الإجابة على هذين السؤالين وهو البحث عن الأثر السياسي لقرارات تبدو تقنية، فالرئيس بوتفليقة جعل من مواجهة المؤسسة العسكرية ورقته الأولى، وقد اختار أن يطلق أول تصريح مثير حول الجيش أياما قليلة بعد توليه الرئاسة، وفعل ذلك في منتدى كرانس مونتانا الاقتصادي، ومنذ ذلك الحين وهو يكرر تصريحاته ويسحبها، يمجد الجيش دون أن ينسى التذكير بأنه هو الرئيس الفعلي وصاحب القرار، ومع مرور الوقت بدأت القصة تتحول إلى ما يشبه “خروجا عن النص” لا يؤثر على التوازنات القائمة داخل السلطة في شيء.

إن التآكل الذي تعرض له خطاب بوتفليقة مع مرور سنوات حكمه، وتراكم الخيبات التي آلت إليها مشاريعه “العملاقة”، وورشات الإصلاح الكبرى التي أطلقها مع مجيئه إلى الحكم، دفعت به إلى الاستنجاد مجددا بورقة الصراع مع الجيش تارة، ومع المخابرات تارة أخرى، ولعل المتابع لفترات حكم بوتفليقة المختلفة يلاحظ أن هذه الورقة تطفو إلى السطح عندما تجتمع بعض العوامل الضاغطة التي تؤثر على حظوظ بوتفليقة في الاستمرار في الحكم.

في سنة 2004 واجه بوتفليقة خصومه الذين كانوا يحاولون قطع الطريق عليه للترشح لعهدة ثانية، وقيل آنذاك إن قيادة أركان الجيش ممثلة في الفريق الراحل محمد العماري، مدعوما بجنرالات آخرين، كانوا وراء ترشح علي بن فليس، ولا تزال هذه القصة متداولة على أنها حقيقة، رغم أنه لم يتم تأكيدها من أي طرف، في حين جرى التأكيد أكثر من مرة على أن الجيش لا علاقة له بالانتخابات، والأهم من هذا أن الأمر لم يتحول إلى صراع علني، ولم يتم تسريب أي قرارات، وقد انسحب العماري ورفاقه بهدوء وأحيلوا على التقاعد.

الإيحاء بوجود صراع بين الرئاسة والمخابرات بدأ قبل نحو سنتين من الآن، ففي شهر سبتمبر 2013 بدأت حملة عزل مسؤولين كبار في جهاز المخابرات، وقد ذهل الجزائريون وهم يقرأون أخبار هؤلاء في الجرائد، ووقفوا مشدوهين وهم يتابعون ذلك الهجوم “التاريخي” الذي قاده أمين عام جبهة التحرير الوطني عمار سعداني على رئيس الجهاز الفريق محمد مدين، لقد بدا الأمر في قمة الإثارة، إلى الدرجة التي أنست الجزائريين طرح السؤال الأهم : كيف جعل المرض الرئيس بوتفليقة بهذه القوة الخارقة التي تسمح له بتطويع هذا الجهاز المهاب الجانب؟ في زحمة الحدث ضاع السؤال ولم يطلب أحد الإجابة عليه.

رئيس أقعده المرض يسير نحو الترشح لعهدة رابعة ناكثا عهدا بتسليم السلطة للشباب، وحصيلة هزيلة لخمسة عشر عاما من الحكم، ليست أوراق رابحة لمن يريد لبوتفليقة أن يبقى في منصبه، ولتجاوز هذا لا بد من أمر مثير بدرجة تعكس الحرج الذي وقعت فيه الجماعة الحاكمة، كان لا بد من حدث كبير، وفي اعتقاد بوتفليقة ليس هناك ما هو أكبر من مواجهة جهاز المخابرات، وإخراج المواجهة إلى العلن أهم من المواجهة في حد ذاتها.

كذبت الأيام جل ما نشرته الصحافة من تكهنات نسبت للصحافيين أو لمن يوصفون بالخبراء الأمنيين، فقد تم اعتماد قاعدة بسيطة تقول أن كل من تتم تنحيته هو بالضرورة مقرب من الفريق مدين، وأن كل من يأتي يدين بالولاء للفريق الآخر الذي يقف إلى جانب بوتفليقة، فلعبة الثنائيات أثبتت جدارتها منذ أن دفعت بملايين الجزائريين إلى صناديق الاقتراع في سنة 2004 وهم يعتقدون أنهم بفلعهم ذاك ينقذون رئيسهم من مؤامرة تحيكها مجموعة من الجنرالات دفعت ببن فليس إلى ساحة المعركة، وقد اكتشف كثير من محترفي السياسة أن اللعبة أعدت بإتقان، وأنها نجحت فعلا، وسرعان من انطلت الحيلة على الناس مجددا فركنوا إلى اختزال كل أمراض النظام الجزائري في هذا الصراع المفترض بين الرئاسة والمخابرات.

لم يف بوتفليقة بوعده الكبير بإعادة بناء الدولة الجزائرية، ولم تتجسد تلك الإصلاحات التي توقع الجزائريون أن تضع أسسها لجنة إصلاح هياكل الدولة، ولم يأت الدستور الذي كان أولوية في سنة 1999 ولا يزال كذلك اليوم، أولوية لا تجد طريقها إلى التجسيد، وبعد ستة عشر عاما من الحكم لم يبق إلا إعادة هيكلة جهاز المخابرات وتبادل المناصب بين قادته، دليلا على وجود مشروع للإصلاح سوقه عمار سعداني تحت شعار “بناء الدولة المدنية” التي اختزلت في توجيه النقد للجنرال توفيق أو “سي علي” كما سماه، وبعد سنتين من بداية هذه اللعبة المثيرة لا شيء تغير، فقط مزيد من القرارات المسربة إلى الإعلام تحاول أن تثبت أن المرض يكسب السياسي مزيدا من القوة، وأن فشل ستة عشر عاما يمكن تداركه في بضعة شهور من خلال قرارت قد تكون خاتمتها إعلان ذهاب الفريق محمد مدين إلى التقاعد، وبقاء بوتفليقة في الحكم إلى حين.

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى