أعمدة الرأي

الفساد مؤذن بتخريب الجزائر

  خصص ابن خلدون فصلا مستقلا لهذه الظاهرة، تحت عنوان اطلق عليه ” الفصل الثالث و الاربعون  في ان الظلم مؤذن بخراب العمران”، وقد شدني هذا العنوان، فوجدت نفسي عاكفا على اقتباس هذا العنوان، لقراءة اوضاعنا على ضوئه، ذلك ان الفساد امر خطير الاثر، ليس من الناحية الاخلاقية و الاجتماعية والنفسية فحسب و انما مؤذن بخراب العمران و ممهد لذللك ومسبب لما يؤدي الى الخراب ومثمن للتدخلات الاجنبية، ومشتت للصفوف، ومخرب للتصورات، واوضاعنا ابلغ من أي اقتباس.

   فالفساد يعتبر عامل من اكبر عوامل سقوط الامة حضاريا، وله مفهوم شامل و عريض يؤدي الى فقدان التوازن في كافة مجالات الحياة، وعلاقة الانسان مع نفسه وثوابته و اصوله، ومع غيره وعلى هذا تنبثق حالات وظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية متعفنة، وتصورات فاسدة عن المنظومة الحضارية للامة، فيعم الفساد حياة الامة بكاملها كما جاء في محكم التنزيل    ” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّوَالْبَحْرِ”، أي نحو القحط و الجدب وكثرة المعاصي، واشاعة الفاحشة الحضارية وانعدام الحياء و التهافت على انهاء الامة حضاريا كاستجابة بافلوفية للأعداء التقليديين، الذين يوفرون الحماية للمفسدين،

   ويكشف تعاقب الآية  “بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ” عن ارتباط احوال الحياة واوضاعها السياسية والاجتماعية و الاقتصادية و الحضارية عامة بأعمال الناس وسعيهم لذلك سعيا حثيثا وان فساد التصور يوقع في الامة الفساد و يملئ برها و بحرها، واوضاعنا في المدة الاخيرة معادل موضوعي لما آلت اليه الجزائر العابث بها، فاستفحال الفساد لا يتم عبثا، ولا يقع صدفة وامنا يكون وفق سنة جارية وحكمة مدبرة:  “وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا “(16) من سورة الاسراء.

   والمترفون في كل امة هم المفسدون الذين يجدون الاموال و الخدم فينعمون بالدعة و الترف و التسلط حتى تترهل نفوسهم و تأسن وترتع في الفسق و المجانة، وتستهتر بالقيم و المقدسات وتلغ في الاعراض و الحرمات، وهم ان لم يجدو من يتصدى لهم عاثوا في البلاد فسادا، ونشروا الاباحية في الامة و اشاعوها دجنوا القيم  العليا التي لا تستمر الامة في سيرها الى بها ولها، ومن ثم تتحلل الامة وتسترخي و تفقد قوتها اسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها وترمى في احضان العدو التقليدي-فرنسا التاريخية- (واوضاعنا ابلغ من هذه الحيثية).

   فماذا حدث؟ هل نقول ان الهزيمة وصلت الى الوجدان و الفكر واننا انهزمنا من الداخل ؟ فماذا حدث بالله عليكم، لنا اليوم، فمند الازمة الدموية مرورا بمختلف انواع الكوارث و التمزقات و الاختلاسات المقننة و تهريب الاموال الى الخارج و الرشاوي التي اصبحت تقليدا وطنا و الانقلاب على التاريخ، ورهيب الشعب بالربيع العبري ولا نرى تمردا نوفمبريا في مستوى هذه الكوارث المنقولة على المباشر في جميع القنوات العالمية. هذا  كثير علينا كثيرة على امة لها من مقومات القوة في الحاضر الذي لوثه التصهين المتفرنس وعناصر الثبات في الماضي الملحمي وكثرة العدد، وسعة الجغرافيا و قداسة التاريخ واهمية الموقع ان يقال عن ارض الملحمة انها انهزمت نهائياَ!

  والسنن الحضارية تقرر ذلك. فإذا قدر الله في امة انها هالك لأنها اخذت بأسباب الهلاك فكثر بها المفسدون المترفون، فوجود المترفين ذاته دليل على الامة قد تخلخل بناءها السياسي و الاجتماعي و النفسي وفسقت عن امر قيمها وبوابتها وتاريخها بـ شعار كسر الطابوهات الذ رفع في بداية الالفية الثالثة، فيصيبها الهلاك و الدمار جزاء وفاقا.(واوضاعنا ابلغ من هذه الحيثية ايضا)

   وهل هناك دمار اكثر من قطع لسان الامة؟ وهل هناك اكثر من تنصل الامة من قيمها الحضارية و التاريخية لتلقي بنفسها في المجهول. وانه لجدير بكل القوى الوطنية الاصيلة ان تتابع اوضاعنا وتفهم وتعي، بأن هذه الاوضاع بعد الارهاب المبرمج اصبحت اشبه بغابة ملأى بالوحوش، ويبدو ان قانون الغاب بعد الانقلاب على تاريخنا هو الذي سيتحكم بهذه الاوضاع (عش لتأكل و تؤكل) وهذا ما يجعل الاسئلة الحائرة من اجل الوصول الى الحقيقة في ظل هذا الخطر ايسر سبيل وهذا ليس ببعيد على شرفاء هذه الامة اينما كانوا. الا يحق لنا في ظل هذه الاوضاء ان نردد قول ذلك الاعرابي: (كيف حال الناس)؟ فأجابهم: (انهم بشر بين مظلوم لا ينصر وظالم ينتصر) فما اقرب اوضاعنا من هذه الحيثية.

   ان السنن الحضارية قد جعلت الامة نواميس لا تتخلف، ونواميس لا تتبدل، وحين توجد الاسباب تتبعها النتائج فوجود المفسدين وتسلطهم على الامة، دليل على ان الامة اغتصبت حضاريا وسارت في طريق الانحلال. .(واوضاعنا ابلغ من هذه الحيثية ايضا)

   وهنا تبرز تبعات الامة في ترك الفساد  يحفر قبرها وينشئ آثارها التي لا مفر منها، وعدم مقاومة هذا النظام فيحق عليها القول فدمرناها تدميرا .(واوضاعنا ابلغ من هذه الحيثية ايضا). و المتأمل الشريف والدارس النزيه لأوضاعنا المأساوية مند ان وطئت اقدام المفسدين الجزائر في ملابسات تاريخية مؤلمة اقربها الى وعد (بلفور) الذي غرس كيانا سرطانيا فتت جسم الامة العرية الاسلامية، يلاحظ ان ما دبر في الجزائر بعد الارهاب الوحشي المبرمج هو التأسيس للفساد الذي ينخر ما تبقى في جسم الامة بعد الارهاب.

   الا يحق لشرفاء الامة في كل المؤسسات ان يتمثلوا قصة ذلك الرجل الذي نادى على سليمان ابن عبد الملك وهو على المنبر: ( اذكر يوم الآذان يا سليمان. فنزل سليمان و دعا الرجل وقال له: ما يوم الآذان؟ فقال : قال تعالى ” لعنة الله على الظالمين”  فقال: فما ظلامتك؟. قال: أرضي…بلدي أخدها وكيلك مني).

  وكذلك حريتنا، قيمنا، ثوابتنا، خيراتنا، رهنها المفسدون الذين يريدون ان يجددوا مآسي هذه الامة، لكنني سأقول لهم نيابة عن شرفاء الامة واصالة عن نفسي ما قاله سقراط في محاكته المشهورة: ( انكم مخطئون اذا ظننتم انكم بقتلكم الناس ستمنعون أي ناقذ من كشف شروركم…لا ليس ايسر الطرق واشرفها ان تكمموا الافواه، بل ان تصلحوا انفسكم و تقيموا الوزن بالقسط). وبعد هذه المؤانسة السقراطية، هل نحزن على ما فعل المفسدون، وهل نبكي، وهل نذكرهم بكلة خير؟ وهكذا فنحن في نهاية الاستهتار السياسي …الاستهتار الذي سيموت بعد يقظة نوفمبرية خلاقة. وداعا يا سبة السنين يا سبة العقدين ولعنة النوفمبرية  العائدة بيقظة مؤسسة الجيش الوطني الشعبي الذي هو سليل جيش التحرير، الذي اسس على بيان تاريخي وحضاري اعلنت من خلاله الامة احتضانها لهذا الجيش وخاضت اكبر ملحمة كانت نتائج انتصارا ظاهرا حير الاعداء وادهش الاصدقاء. وداعا يا عقدي الفرقة، وشاهد الذنب الكبير الذي ارتكب على ارضنا! اكاد الان اسمع حشرشة الجزائر وهي تستيقظ لكي تدافع عن ملحمتها وترد بحسرة وتقول لشرفاء الامة: السر فيكم لا في اللئام و النقص في اصحاب الامر لا في ايام الشهر، الم يأتيكم قول ابن المقفع بلسان بيدبا الفيلسوف: (من ذا الذي اتبع هواه فلم يخسر؟ ومن ذا الذي طلب من اللئام فلم يحرم؟ ومن ذا الذي خالط الاشرار فسلم؟)

  واتوقف هنا عن الكتابة  وسط خيط يلمع كالنور اضنه دمعة فإذا به اسئلة حائرة رافعة اكف الضراعة قائلة ان الجزائر اقوى من اعدائها لأنها مضرجة بدماء نوفمبرية. اما المنسلخون من كل القيم التاريخية و الوطنية ليدمروا الجزائر فسنتركهم لعذاب الضمير لعذاب السماء  سنتركهم للعنة النوفمبرية الابدية السرمدية الخالدة. أنها لعنة تصيب الولد وتصيب العقل والجسد: (سأصليه سقر و ما ادراك ما سقر لا تبقي ولا تذر) و الله غالب على امره ولو كره المفسدون.

متعلقات

تعليق واحد

  1. الفساد عام و مقنن في الجزائر هذا ما صرح به القاضي الأول للبلاد في احدى خطبه …مقالك مفيد جدا للمتابع المهتم فهو ثري و مدعم …لكنه تمحور حول المقاربة الدينية التراثية للموضوع فقط رغم أهمية باقي المقاربات للفهم و الالمام بالموضوع من كافة جوانبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى