أعمدة الرأي

بين الدِّينار و اللِّيرة …

منذ تم سكُّ الدِّينار كعملة للدّولة الجزائرية المستقلة و هو في هبوط مستمر لا يعرف إلى معاودة الصعود سبيلا ، و في وجهته النّازلة هذه تنخفض قدرة المواطن على شراء أبسط حاجياته الأساسية و ترتفع معاناته في مجابهة متطلباتٍ تأخذ في بعض الأحيان طابع التّسلسل ؛ فلا يفتأ الجزائري أن يخرج من مناسبة معيّنة تأكل لحمه حتى يدخل إلى مناسبة جديدة تذيب شحمه ، و في مسك الختام تفجعه فواتير الكهرباء و الماء فتدقُّ عظمه و لا يكاد صاحبنا يستقيم واقفا من شدة الضربات المتلاحقة .

في كل دول العالم تقريبا تنخفض العملات برهة من الزّمن ثم لا تلبث أن ترتفع مجدّدا ، فيُّقال أن عملة البلد الفلاني تشهد تذبذبا لأسباب وجيهة يسوقها المحلِّلون الاقتصاديون في توصيفاتهم و تحليلاتهم لملابسات انخفاضها و ارتفاعها ، حتى أنّ من يتابع تحاليلهم تلك في القنوات التلفزيونية أو يطالعها في الصحفّ أو على الشبكة العنكبوتية يخرج مقتنعا بكلامهم واثقا من صدق حديثهم .

في جزائرنا الحبيبة لن يستطيع أحد إيجاد سبب مقنع للهبوط الأزلي و المُحتّم لدينارنا المسكين ، و كأنّه يوم ولادته ختموا على أحد وجهيه عبارة ” هابط و ربي كبير ” ، كل قوانين الاقتصاد و نظرياته من لدن  ” آدم سميث ” مرورا ب ” جون ماينارد كينز ” و حلوله السِّحرية لأزمة الكساد العظيم وصولا إلى آخر عالم اقتصاد نال جائزة نوبل في تخصصه  لا تفي بالغرض و لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تُفسِّر حركة الاقتصاد عندنا و أن تستنتج علله فتجد له الدواء الشافي ، إنّها تقف عاجزة حائرة و هي لا تفهم هذه الظاهرة الغريبة : عملة في هبوط مستمر و دائم ، و مع ذلك يخرج علينا مسؤولونا على عادتهم في صحة وجوههم ليؤكدوا على سلامة الوضعية الاقتصادية للبلاد و أن الأمور متحكم فيها ، و حتى لجوءهم لطباعة العملة ؛ و هي عملية تتم دون انعكاس حقيقي لذلك في الناتج الاقتصادي المحلي ، لن يؤثر – حسب زعمهم – على تماسك اقتصادنا المُصان من كل النكبات ، و ما يثير الدّهشة و الإعجاب إصرار المسؤولين على طمأنة الشعب الجزائري بأن قدرتهم الشرائية لن تتأثر و أن الأسعار لن تعرف ارتفاعا و ستبقى مع كل هذه الإجراءات مستقرة ، و هو كلام يناقضه الواقع المرّ لأي جزائري .

و نحن نطالع الأخبار عن انعكاسات هبوط الليرة على الاقتصاد العالمي يستوقفنا تأثيراتها سلبا على البورصات العالمية بما في ذلك بورصة وول ستريت بنيويورك ، فحتى الولايات المتحدة التي كانت تغريدة رئيسها سببا مباشراً في أزمة الليرة كان لها نصيب من تلك التداعيات السِّلبية ، و تجد أن عملات ذات الوزن في أسواق التبادلات التجارية العالمية على غرار اليورو نالها نفس مصير الليرة ، و عندما تستفسر عن السّبب في داخل نفسك ، يجيبك المحلِّل الاقتصادي من وراء شاشة الِّتلفزيون و كأنّه سمع سؤالك :   ” أسواق المال العالمية مترابطة و تجمعها صلات بحكم المعاملات التي تتم بينها ؛ فتؤثر في بعضها و تتأثر ” . و عندما تبحث عن تأثير هبوط الدينار أو تأثره فلا تكاد تجد له تأثيرا يذكر داخل تلك الشّبكات الاقتصادية و المالية العالمية ، يبدو أن انعكاس هبوط الدينار لا يتعدى تأثيره على جيب المواطن و  خفض  قدرته الشرائية .

و في الوقت الذي يخرج فيه المسؤولون الأتراك ليؤججوا المشاعر القومية في مواطنيهم و هم يواجهون تآمر قوى دولية على اقتصادهم ؛ يلتهب حماس الشعب التركي و يتهافت على الشوارع بين ممزق للدولار و باصق على صورة ترامب و من يدوس على العلم الأمريكي ، في جو جياش مشحون بالعزة و الإباء و النخوة و الإصرار على المحافظة على سيادة البلاد مهما كلفت الأثمان ، في هذا الوقت و نحن مقهورون من تهاوي قيمة دينارنا المسكين و نتأفف من سياسات الحكومة الاقتصادية و من تباطئها في إيجاد حلول جذرية لمشكلة انحدار القدرة الشرائية ؛ يُطلُّ علينا مسؤولونا ليسمعونا الأسطوانة المشروخة التي تعزف على أنغام ويلات الإرهاب و خطر الأزمات الأمنية الداخلية و الخارجية التي تحدق بالبلاد ، و يَمضُون في وعيدهم للشعب بالويل و الثبور و خراب البيوت إن هم انتقدوا تسييرهم و إدارتهم أو إن هم لم يُقرّوا بإنجازاتهم ، فتنخلع القلوب و ترتجف الأفئدة و يصبح الحليم حيرانا و ينسى البائس آلامه فيرضى بالموجود و يحمد خالق الوجود .

لقد بات من المؤكد أنّنا كجزائريين نسير بالبركة و دعوة الخير ، فمنذ الاستقلال الذي مضى عليه أزيد من ست و خمسين سنة ، لا تزال الجزائر واقفة شامخة شموخ جبالها الراسيات ، لا تُحرِّك سكونها الأزمات الاقتصادية و لا تكدِّر صفوها الكوارث المالية ، طالما استبدل مسؤولونا قوانين الاقتصاد و نظرياته بحججهم و براهينهم التي لا تستند إلا لأمزجتهم و ما يبدو لهم على أنه نجاعة للاقتصاد الوطني و كفاءة و متانة ، و هو الشيء الذي نراه ضعفا اقتصاديا و هشاشة و فسادا .

على المسؤولين عندنا أن يعوا جيدا بأننا نسير بسرعة رهيبة دون رؤية و لا بصيرة ؛ فهذه حقيقة تثبتها مؤشرات متطابقة للعديد من مراكز و مخابر الدراسات و الأبحاث محليا و إقليميا و دوليا ، و ساعتها ينبغي عليهم أن لا يواصلوا في عنادهم و يهملوا قوانين الفيزياء  كما أهملوا قوانين الاقتصاد ؛ ينبغي عليهم أن يعلموا أنّ شدة الصّدمة تتناسب طرداً مع سرعة الجسم المنطلق نحو الشيء الذي يصطدم به .

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى