أعمدة الرأي

حراك الرأي

إذن نحن أمام (مسألة وطنية) يقينا؛ والمسألة هنا تعنى تحديدا مشكلة ذات شأن عميق ، ودقيق، والمشكلات كالأوزان تُقاس بثقلها وكثافتها وحجمها، وقد تكفلت ظروف ما بعد المأساة الوطنية بصياغة المشكلة بأساليب ووسائل شتى، لسنا في راحة من أمرنا كي يستغرقنا الخوض فيها عبر هذا المقال . لكن الجلي من مظاهرها كثير، وبالضرورة كثرة أسبابها ، لكن الأبرز منها و الأنفذ في تمام صياغة المشكلة على النحو الذي هي عليه الآن ؛ أي في مرحلة الحبكة : أرى أن البلد كان ضحية حالة طمع وجشع و تراكم ثروات من فيئات استغلت ظروفا معينة مرّ بها البلد فاغتنت، وقدّرت أن الحفاظ على مكاسبها الثروية المتعاظمة لا يتحقق إلا بالتشابك بين السلطة والمال، في شبكة يتفاوت فيها نسب المتحكمين في الشأن السلطوي بين الطرفين (رجال السلطة ورجال المال الجدد)، بطريقة عشوائية قد تحسمها الظروف والملابسات في كل واقعة على حدا، فتختلف عن غيرها أو تشابهها أو تطابقها ، لا يهم .

 وعن هذه العلة الوبيلة تناسلت معظم الممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية، لتصنع مشهدا وطنيا عنوانه (اللامبالاة)، بجملة من السمات الجزئية كالتحقير، و(التزبيل\من الزبالة أكرمكم الله ،

و (الترييف)\من البداوة بمعناها النقيض للتحضر والتمدن، بلغت عنفوانها في ممارسات كثيرة من أبرزها ممارسات سعيداني أمين جبهة التحرير السابق ، الذي جيء به ليُسدل ستار النهاية لأي مأثرة من مآثر الجبهة التاريخية، ويثبت أقذر صورة للأداء الزبالي \السياسي . وختامها واقعة ( الشرولية\ الكادنة) التي أهدت العالم أقذر سلوك باسم نواب الشعب، وبين هذا وذاك ما لا يأتي عليه عدُُّ ولا حصر من ممارسات، تكفلت بتخليدها وسائل التواصل الاجتماعي، وأهازيج الملاعب، فضلا عن المقاهي ومجالس الرذيلة ، وتدخين أصناف المخدرات، حتى مسّكها\من المسك (بوشي)؛كي ينحر ما تبقى من حشاشات الحياة لدى الشباب .

وها هي (مرقصة اللعنة الخامسة) تُكلّل المشهد بمأساويته المذهلة؛ فقد تجاوزت بها الأمور كلّ منطق للامبالاة يمكن التعامل معه بقدر من الإدراك العاقل .

فكان ردّ الفعل الشعبي مساويا للفعل ومضادا له في الاتجاه، وها هو يتعاظم ليطم الفعل، ويلقي به

في غياهب التاريخي ؛ فيكون مرحلة شاهدة على نموذج أرعن للامبالاة في التعامل مع مصير بلد وشعب، ومقدراتهما.

وقبل المضيّ في السياق أراه في حاجة لربط الوقائع والمحطات ؛ كي تستقيم الرؤية ومداها، فإن كان النداء في أتون الحراك والاحتجاجات بالجمهورية الثانية؛ فإني أرى أننا في حاجة لتقييم أحسبه أدق؛ فالجمهورية القائمة الآن هي الجمهورية الثالثة ، التي ولدها قانون المالية المشؤوم لعام 2016، الذي شهد احتجاجات وردود فعل قوية من أبرزها احتجاجات النواب داخل البرلمان، و هنا أستشهد بما ورد

في إحدى مقالاتي التي كتبتها آنئذ( بالمناسبة شمخت الصحف الوطنية عن نشرها !) ، أن البلاد ستدخل حقبة مغايرة جذريا لكل ما مر بها مذ الاستقلال ؛ تُسلّم مفاتيحها لقوى المال الذين سيضبطون إيقاعات سياساتها : الاقتصادية – السياسية -الاجتماعية -الثقافية – الإعلامية – التربوية ؛ أي التمهيد لمشروع مجتمع ؛ تتولى فيه (القيمة المادية السوقية) التوجيه وصياغة المجتمع وفق تلك القيمة ومقتضياتها؛ كونها تبلغ لدى أصحابها مبلغ كمال الرؤية التي على العالم أن ينسجم معها ويخضع لها ولأوامرها . فتأتى بمثابة أحد مُصدّقات أطروحة العولمة في نسختها الطاغية بإكراهاتها الثقافية والاقتصادية والتربوية؛ مما يقود كل المجالات بعدئذ نحو وجهتها المطلوبة .

ولو فحصنا متأملين المنطق الداخليّ الذي يحكم ما يجري على هرم السلطة ، فسنجده ينم عن العزم على تحوّل يفوق في قوّته وعمقه وجوهره كلّ المحطات الكبرى التي مرت بها البلاد مذ استقلالها .

وهما مرحلتان تحديدا : مرحلة الاختيار الاشتراكي بعد الاستقلال (الجمهورية الأولى) الذي مهما اختلفنا حوله، فقد تمحّل له النظام بروح العدالة الاجتماعية التي انتظرها الشعب نحو قرن وثلثه، وتحققت بعض نتائجها الحسنة.

ومحطة أحداث أكتوبر 1988 ومابعدها (الجمهورية الثانية ) التي عبّرت في وجهها الظاهر على الأقل عن تطلع الشعب للحرية السياسية  والإعلامية وحرية الرأي ، والقضاء على الفساد . لهذا استُثمرت على أنها مطلب شعبي أفضى إلى تحول سياسي أطلق المتناقضات في فضاء تعانقت فيه الحرية الجامحة مع الفوضى . وعلى أي حال كانت مرحلة معبرة عن إرادة شعبية .

لكن المرحلة الحالية أي المحطة الثالثة التي ستكون بمثابة ولادة جمهورية جديدة قد يُطلقون عليها وصف

 ( الجمهورية الثالثة ) ، وهي بالطبع (جمهورية الشكارة )، فالمرتقب أن تكون المرحلة القادمة إن شاء الله هي الجمهورية الرابعة .

ونحب أن نسكن المشهد كله ضمن السياق العالمي الذي تسير ، وتسُير الأحداث نحوه ، وهو (جمهورية السوق الاستهلاكية العالمية) ، فكلّ حركة أو سكون على الكوكب يجب تطويعها لمقتضيات الجمهورية .

لكن أصحابنا بمستوى (الشكارة ) لم يتأهلوا لإبرام المأمول، فبقوا يراوحون حول (الطرحة) و(والمطمور) .

أمّا تحديات المسألة الوطنية الآن هي :

  • سحب رئيس الجمهورية ترشحه.
  • مصير البلاد على ضوء القضايا الكبرى الآتية : مصير الانتخابات – موقف المؤسسة العسكرية – – العلاقة بين الحراك الشعبي والمعارضة – حالة الحراك وفق مراعاة الوضع الإقليمي والدولي الدقيق المعقد، والغامض في كثير من مجسّات الجسم العربي والإسلامي الحسّاسة –  الإجراءات الأساسة للانتقال ديمقراطي سلس يليق بمستوى الحراك، والأهم آمال الجزائريين .

يقينا أن أي ادّعاء لبتقديم إجابات دقيقة في هذه اللحظات بالذات، لا يتجاوز الادعاء، لكن علينا بحراك الرأي أيضا، فالمرحلة مرحلة حراك .

  • بالنسبة للانسحاب الرئيس من الترشح، فكل المؤشرات ترجح تحقيق هذا المطلب الكبير الحاسم، وأهم المؤشرات هي : قوة ضغط الحراك ، وانخراط قوى دعم تقليدية لاختيارات السلطة، مواقف شخصيات ذات وزن وطني وتاريخي ودولي، دعم شخصيات ذات وزن في أحزاب السلطة للحراك، ترقّب وفود شخصيات كبيرة جدا لساحة المساندة والتأييد، وقد لا أستبعد منها بعد إدريس الجزائري شخصية دولية أممية كبيرة !!!. ومن المؤشرات الهامة أيضا خروج حالة الرئيس الصحية الحرجة إلى ساحة الإعلام الدولي، وفيما يبدو أن هذا السلوك الإعلامي الدولي ليس عفويا؛إنما هو لدفع الدول المؤثرة في السلطة الجزائرية لدفعها إلى إجراءات معينة، بالطبع تتماهى مع المصالح الحيوية لهذه الدول مع الجزائر، على ضوء ما تحقق من شراكات اقتصادية واعدة معها ، فضلا عن التخوف الكبير من انفلات الأمور، وما ينجر عنه من تفجر مشكلة لاجئين ومهاجرين لا تحتملها الأوضاع الإقليمية والدولية . وعلينا أن ننوه هنا ، أن مشكلة تدفق اللاجئين على أوربا تحديدا كان له أكبر الأثر

في مواجهة المقاربة الأمريكية لشرق أوسط جديد، و أطروحة (التفتيت) (البرناردية)\نسبة لبرنارد لويس.

أما مسألة الانتخابات فقد يكون من الحكمة بعد سحب الرئيس ترشحه، تأجيلها لفترة لا تتجاوز نهاية شهر أوت مثلا، يُتاح فيها احترام الإجراءات الدستورية المتبعة ، بعد التكييفات القانونية الدستورية  اللازمة للوضع، وأعتقد أن المخارج القانونية لهذا لا تُعجز الفقه الدستوري .

وبالضرورة يجب تشكيل هيئة مراقبة انتخابات ، بمشاركة مستقلة وحرة من قبل الأحزاب والناشطين السياسيين وفقهاء القانون الدستوري والهيئات القضائية، وفي مقدمة هؤلاء بالطبع ممثلون عن الحراك الشعبي ، والهيئة هي التي تنتخب رئيسها ونوابه ، والمشرفين الولائيين على مراقبة الانتخابات .

ومن المهم جدا أن تتوسع دائرة الشباب في هذه اللجنة ؛ لأننا علينا الحسم بتوليهم مفاتيح مستقبل البلاد لأنه مستقبلهم بالضرورة . وأرى من باب العزة الوطنية أن نتولى أمورنا بأيدينا، ونستبعد مطلقا فكرة المراقبين الدوليين والخارجيين للانتخابات .

وغني عن التذكير بأن المغامرة بحالات الفراغ الدستوري أو السياسي من أخطر ما يمكن أن يواجهه البلد، وليس من حق أي قوة كانت أن تتهور في هذا الأمر ، لا سلطة ولا أحزابا معارضة ولا حراكا.

وأعتقد أن تنخرط المعارضة المؤيدة للحراك فيه بالانصهار في زخمه، توحيدا للطيف المتحرك، وسدا لذرائع المكاسب الحزبية أو أيديولوجية ، وما شاكلها . ولنا في تجربة ثورة التحرير خير نموذج؛ فبانصهار الجميع ضمن بوتقتها حققت هدفها الأساس (الاستقلال ) بفضل الله تعالى .

تمتين اللحمة الوطنية من خلال مدّ جسور الثقة في الجيش الوطني ؛ لأنه أحد أهم الركائز الضامنة لأمن البلد، و التصدي للاختراقات المحتملة . وأرى هنا ضرورة انتباهنا لمسألة التدخلات الخارجية؛ فقد دفعت تحذيرات السلطة من مخاطر هذه التدخلات ، أصواتا كثيرة من داخل الحراك ومن خارجه، لتسفيهها ، بذريعة أن الخطر الوحيد هو سياسات السلطة، وأن تصحيح المسار هو الضمان لدرء تلك المخاطر، ويلحق بهذا الدعوات الدعوة لتغييرات جذرية راديكالية فورية ، فهذه مغامرات لا أحد يضمن عواقبها؛لأنها ستوفر أفضل الظروف للتدخل الخارجي، بصور وأشكال عدة. علينا ألا نهمل معطيات صلبة منها : أننا محاطون بالوعاء البديل للجماعات الإرهابية التي هُزمت في العراق وسوريا، تستوعبهم ليبيا بمدد سلاح رهيب (22مليون قطعة سلاح تُتادول في ليبيا مثلا) ، أننا محاطون بجملة من القواعد العسكرية لدول كبرى، التي من مهامها أن تُرفع متى لزمت مصالح الدول العظمى رفعها، حين تُقضم الجزرة، أو تذبل. إذن نحن في حاجة للتنبه، فلا تجرفنا نقمتنا على (جمهورية الشكارة) نحو الحلّ (النيروني ) \نسبة لنيرون إمبراطور روما الذي أحرقها ثم انتحر .

يبدو أن إنجاز انتخابات رئاسية ناجحة حرة ونزيهة، ستجعلنا قُبالة مشهد سياسي واسع جديد، للشروع في خطوات كبرى في مسار المستقبل . وقد تكون الخطوة الأولى الكبرى هي وضع عقد اجتماعي يضمن مبادئ رئيسة كبرى ومركزية ، تنتظم فلسفة ورؤية الدولة الجديدتين، والمبادئ الكبرى الحاكمة للدولة والسلطة، وقد يكون من المبكر الخوض في هذا الأمر الآن ، لكن لابأس بأن نقول إن روح العقد الاجتماعي المقترح تشكلها عناصر صلبة جوهرية هي :

العدل كونه قيمة القيم – الوحدة الوطنية من كل مكوناتها الترابية التاريخية والعرقية واللغوية والثروية والدين الإسلامي – الديمقراطية سمة الدولة الثابتة في الحكم و السياسة ، والعلاقة بين السلطة والشعب .

على كلّ نسأل الله تعالى أن ييسر لبلدنا تجاوز مسألته بسلام وأمن، وانتقال سلس لامتلاك حقيقي فعلي لقراره، ومقدراته ومؤسساته .

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى