أعمدة الرأي

خلفيات منع فيلم الشهيد العربي بن مهيدي

   أثار الفيلم حول الشهيد العربي بن مهيدي لغطا وجدلا في الساحة الوطنية بعد منع عرضه للأسف الشديد، وهو ما يذكرنا بسنوات الأحادية أين غيبت الحقيقة التاريخية لدرجة طمس ومنع ذكر أسماء أبطال ورموز عظام حرروا الجزائر من الإستعمار الفرنسي، وقد سيطر آنذاك للأسف الشديد ما سمي بـ”التاريخ الرسمي”، ولازال تأثيره الغير مباشر حتى اليوم بعد فرضه من الذين أخذوا السلطة بالعنف في 1962على الشعب خدمة لمصالحهم الضيقة، وما يؤسف له أن هذه الذهنية الأحادية قد عادت بشكل أكثر شراسة بإنتقالنا من “التاريخ الرسمي” إلى “الفن الرسمي”، أي سلطة أحادية تتحكم حتى في الفنون، ولأول مرة منذ تصوير أفلام حول رموزنا الوطنية يتم منع عرض فيلم بهذا الشكل، فهل لأن المسؤولين عن إنتاج هذه الأفلام تغيروا أم لأن هناك رغبة دفينة من أطراف لطمس ذكرى الشهيد بن مهيدي؟ فهل خشي هؤلاء أن يطلع شبابنا على شخصية بن مهيدي النقية الطاهرة وذات وطنية رفيعة جدا لدرجة التفاني والتضحية بكل شيء من أجل الجزائر، فتقارنها بهؤلاء المتاجرين اليوم بالشرعية الثورية، وهم لم يكونوا شيئا مذكورا أثناء الثورة، لكنهم أخذوا السلطة، وأوصلوا الجزائر إلى الهاوية، فلنشر بأن السنيما هي فن، فالفن ليس تاريخ، يحتاج إلى تمحيص أكاديمي، فهل سنؤاخذ جرجي زيدان ونمنع رواياته حول تاريخ الإسلام؟، وهل من حقنا أن نمنع رواية واسيني لعرج بجزئيها حول الأمير عبدالقادر؟، فهل سنمنع أفلام حول رجال كبار في التاريخ، منهم حتى أنبياء، لكن برؤى ومن جوانب مختلفة تصل لدرجة التناقض في بعض الأحيان، وهو نفس ماينطبق على فيلم بن مهيدي الذي بإمكاننا إنتاج عشرات الأفلام والمسلسلات حوله من زوايا ورؤى متعددة، فالفن ليس تاريخ، كما هي الشهادات والمذكرات ليست تاريخ أيضا، لأنها تتحكم فيها عوامل الذاتية كالأيديولوجية والجهوية وتصفية الحسابات ومختلف الصراعات، وهو ما يجب أن يعلم به أبناءنا في المدارس، لكن عدم إدراك شبابنا لذلك، وقعت لهم صدمة عنيفة عندما سمعوا شهادات أو قرأوا مذكرات لفاعلين تاريخيين في السنوات الأخيرة.

   أما بشأن إستناد ما نعي الفيلم على لقطة تصور وجود علاقة مضطربة بين بن مهيدي وبن بلة، كان فبغض النظر عن إمكانية تفاديها أم لا إلا أنها في الحقيقة كانت مجرد ذريعة لمنع الفيلم، ولعل لم يؤخذ قرار المنع إلا لدواع أيديولوجية وجهوية من أناس أرادوا فرض قراءتهم التزييفية للتاريخ أو لازالوا متأثرين بالتاريخ الرسمي وغير قادرين على التحرر منه بسبب عدم إمتلاكهم روح نقدية ومناهج علمية تسمح لهم بتفكيك أي خطاب تاريخي كان؟ كما يمكن جدا أن يكون ذلك نتاج عملية تقديس للمجاهدين الذين هم بشر مثلنا، وليسوا ملائكة أو أنبياء، فهم لهم طبيعتهم البشرية وسلبياتهم وإيجابياتهم، فحتى سيدنا محمد(ص) لامه الله سبحانه وتعالى عندما قال عنه في كتابه الكريم “عبس وتولى أن جاءه الأعمى”، ونحن نريد اليوم أن ننفي عن مجاهدينا صفات بشرية وطبيعية عادية، والكثير منهم يعيشون بيننا اليوم.

    فالعلاقة بين بن بلة وبن مهيدي ستكون مضطربة لعدة أسباب، ومنها أنهما شخصيتين ذات  طبيعتين نفسيتين مختلفتين جدا، فبن بلة متهور وسريع الإنفعال وفوضوي في تصرفاته وتسييره وله طموح شديد للسلطة غذاه فيه المصريين بشكل كبير، أما بن مهيدي فهو هادىء، ويتميز بالحكمة والرزانة لدرجة تلقيبه بـ”الحكيم”، إضافة إلى زهده في السلطة وتفانيه لدرجة التضحية بكل شيء.

  إن الحادثة التي وقعت بين بن بلة وبن مهيدي هي حقيقية، واتفق عليها  كل الشهود الذي حضروا هذا الإجتماع في منزل محمد خيدر في القاهرة الذي شارك فيه كل من بن بلة وبن مهيدي وآيت أحمد وبوضياف وخيدر ومحساس، وكذلك لمين دباغين الذي أرسل لتولي رئاسة الوفد الخارجي مكان بن بلة، مما أغضب كثيرا هذا الأخير الذي كان يطمح لرئاسة الجزائر بدعم مصري، ليجد نفسه تحت إمرة دباغين، فكل واحد من الشهود رواها بطريقته سواء كتابة أو شفاهة أو سرا للبعض، وتناقلها الكثير ممن سمعوها من هؤلاء.

     وكي نضع الحادثة في إطارها التاريخي، فالجميع يعلم أن بن بلة لم يكن زعيما للثورة كما أراد أن يصوره الإعلام المصري والفرنسي على حد سواء، فهو كان مكلف بجلب السلاح فقط، لكنه فشل في مهمته لأسباب موضوعية، وهو ما جعل بن بولعيد في الأوراس ينتقل إلى ليبيا لجلب السلاح، فيلقى عليه القبض، ودفع المسؤولون في الداخل، خاصة عبان رمضان إلى غضب شديد على بن بلة، وهو ما يظهر  من خلال الرسائل المرسلة منه إلى الوفد الخارجي في القاهرة، ويظهر فيها هذا الغضب بجلاء من خلالها، والتي جمعها ونشرها كلها مبروك بلحسين في كتابه “بريد الجزائر-القاهرة1954-1956”.

    إن حاجة الثوار في الداخل إلى جلب السلاح، دفعت بن مهيدي مثل بن بولعيد من قبل للإنتقال إلى القاهرة، فوقع هذا الإجتماع أين تمت محاولة إعتداء بن بلة على بن مهيدي الذي لاحظ بعد تحرياته أن بن بلة قد أصبح ألعوبة في يد المخابرات المصرية، فالذين يريدون محو هذا التصرف عن بن بلة هم مخطؤون، فبن بلة كما قلت متهور وشديد الغضب، فليست هذه هي المرة الوحيدة التي يقوم فيها بذلك، بل الجميع يعرف ما فعله وما نطق به من كلام بذيء وسب وإعتداء في مؤتمر طرابلس1962، فهل لو صورنا هذه الحادثة في فيلم سننزعها، ونقول أنها منافية للتاريخ، وهي التي أجمع عليها كل الحضور كما حادثة القاهرة، فإن فعل البعض ذلك، فدافعهم ليس بريء، بل تحركها الجهوية والأيديولوجية لاغير للأسف الشديد، لأننا رأينا مشادات في فيلم “كريم بلقاسم” لأحمد راشدي  بين عبان وخصومه، ولم يقل أحد أنه تشويه لهذه الأشخاص أو أنها منافية للتاريخ، لكن بالنسبة لبن بلة، فهو تشويه، فهذه حقيقة لاتنتقص من وطنية بن بلة، بل يجب أن نضعها في إطارها التاريخي والنفسي، فهذه ثورة حدثت فيها إختلافات وصراعات، بل تصفيات، وكان كل ذلك نتيجة طبيعة كل الثورات والأمم التي تضم تناقضات نفسية وأيديولودجية وثقافية وطبقية دون أن ننسى الصراع حول النفوذ والغيرة والحسد وغيرها، كما لآ ننسى الضغط النفسي الكبير على هؤلاء المجاهدين والقادة، وهو ما يشفع لهم في تصرفاتهم.

   عاد بن مهيدي  من القاهرة إلى الجزائر غاضبا، وكان بإمكانه البقاء في الخارج، كما فعل بعض القادة العسكريين الذين رفضوا العودة بعد خروجهم، مما دفع عبان رمضان إلى الطلب منهم بالعودة وبقاء فقط الدبلومسيين وأصحاب المهمات الدولية، وقال لهم بصريح العبارة “أن الثورة المسلحة في جبال الجزائر وليست في قصور تونس والمغرب”، فعودة بن مهيدي يؤكد مرة أخرى على طبيعة شخصيته التي أشرنا إليها سابقا، وقد قال بن مهيدي لبن بلة-حسب الشهود- أثناء هذا الإجتماع بالحرف الواحد “مادمت فشلت في مهمتك لتسليح الثورة التي كلفت بها، فعد إلى الجزائر، لتكون في الجبال وفي خضم المعركة معنا”، وهي تقريبا نفس عبارة عبان رمضان التي أشرنا إليها، فدفع ثمنا غاليا لذلك، كما أراد البعض دفع نفس الثمن اليوم  لبن مهيدي بطمس ذكراه وتاريخه للأسف الشديد، بل ما يؤسف له  عندما يطلب من المخرج والسيناريست التركيز على العمل العسكري بدل السياسي، فهل تناسى هؤلاء أن ثورتنا أصلا سياسية، أما الجانب العسكري فما هو إلا أداة ووسيلة للضغط من أجل تحقيق هدف سياسي حسب قاعدة الجنرال الألماني كلاوزفيتز الذي قال “ان الحرب هي مواصلة للسياسة”، ونعتقد أن هذا الطلب هي محاولة دنيئة لتشويه بن مهيدي وتقزيمه وإخفاء بعض الأفكار السياسية التي أستندت عليها ثورتنا الوطنية لصالح أفكار أخرى لم تكن موجودة آنذاك، منها البعد الديمقراطي وأفجتماعي لثورتنا، فمعروف عن بن مهيد غصراره على ذلك، فقد عبر عنها بوضوح في مقالات له في المقاومة الجزائر والمجاهد الذي كان لسان حال جبهة التحرير الوطني أثناء الثورة، ولعل هذه الأفكار الإجتماعية والسياسية أقلقت كثيرا بعض المتحكمين في السلطة، ومنهم بعض رجالات المال الذين يسعون للقضاء على البعد الإجتماعي للدولة الوطنية، كما نص على ذلك نداء أول نوفمبر وأرضية الصومام، كما نشير أيضا أن بن مهيدي هو القائد المخطط لمعركة الجزائر بحكم أنه مسؤول العمل الفدائي في المدن بعد مؤتمر الصومام، لكن لا يذكر معها للأسف الشديد، فهذا الطلب هي أيضا هي محاولة لإثبات ما صرح به  أحدهم لإحدى اليوميات بأن بن مهيدي لم يطلق ولا رصاصة متناسيا أنه قائد، وليس جندي بسيط.

    قد كان لما حدث في القاهرة تأثيرات فيما بعد، ولازالت إلى حد اليوم، كان بن مهيدي وراء عبارة ومبدأ شهير ورد في أرٍضية الصومام وهي “ان الجزائر ليست تابعة لا لباريس ولاواشنطن ولا موسكو ولا القاهرة”، فقد أصر بن مهيدي على ذكر القاهرة لما لاحظه من تلاعب المخابرات المصرية ببن بلة وسعيها لفرضه على الجزائر وثورتها لحسابات الهيمنة الأقليمية، فهذه العبارة أغضبت مصر عبدالناصر كثيرا، وهو سبب رئيسي للهجمة التي تعرض لها مؤتمر الصومام وأرضيته منذئذ إلى حد اليوم، والتي يقودها مؤدلجون متأثرون بأيديولوجيات مشرقية، ويريدون للجزائر أن تكون مجرد دولة تابعة لدول أقليمية أخرى في إطار هيمنة مصرية آنذاك.

         أما التأثير الثاني لعودة بن مهيدي من القاهرة، فهو غياب الوفد الخارجي عن مؤتمر الصومام، فليس صحيح ما يروج أنه لم يتم إستدعاءهم أو توفير أساليب الإنتقال إلى مكان الإجتماع، ففي الحقيقة بن بلة هو الذي رفض الحضور مانعا زملائه بأساليب متعددة ومستعينا بالمصريين كي لايحضروا هذا الإجتماع، وذلك خوفا منه لو حضروا، لأخذوا منه مكانته، وفي نفس الوقت خشي أنه لو حضر هو سيكون مصيره إحدى الإثنتين: أولها أن يبقى في الجزائر كما طلب منه بن مهيدي في القاهرة أو ممكن أن يطلب بن مهيدي محاكمته بتهمة العمل لصالح مخابرات أجنبية، كما وقع مع العقيد محمد لعموري فيما بعد.

    تعود جذور العلاقة المضطربة بين بن بلة وبن مهيدي إلى فترة المنظمة الخاصة أين كان بن مهيدي مسؤولا جهويا، وتولى بن بلة المسؤولية الوطنية خلفا لآيت أحمد، فلاحظ الكثير آنذاك الأسلوب الفوضوي واللآمسؤول الذي كان يسير بها بن بلة المنظمة الخاصة على عكس سلفه آيت أحمد، وهو ما أدى إلى كشف هذه المنظمة في مارس1950، أي بعد ثلاث أشهر تقريبا من تولي بن بلة قيادتها، وأكثر من هذا، فالكثير من أعضائها، ومنهم بالأخص عبان رمضان كانوا يعتقدون بأن بن بلة قد كشف للبوليس الإستعماري كل أعضاء المنظمة وهياكلها بعد إلقاء القبض عليه، مما أثار غضب الكثير من أعضاء هذه المنظمة، ومنهم  بن مهيدي وعبان وغيرهم، خاصة أنه اليوم توجد وثيقة قاطعة بإمكان أي كان الإطلاع عليها تثبت هذه الشكوك التي كانت تراود كل هؤلاء.

    وبشأن التسيير الفوضوي، فهو معروف عن شخص بن بلة، خاصة عند توليه رئاسة الدولة في 1962، والذي كان أحد أسباب إنقلاب بومدين عليه في1965 ، كما أن ما لاحظه بن مهيدي من تسابق بن بلة إلى السلطة بدعم مصري جعله يصرح عند إعتقاله -حسب رواية بيجار- بأن الجزائر ستسترجع إستقلالها، لكن ستعرف صراعا دمويا من أجل السلطة، وهو ما وقع فعلا في1962، لكن فلنشر ونحرص على قوله أن كل هؤلاء بشر لهم وعليهم، فذلك لاينقص من وطنية بن بلة أو غيره من رموزنا الذي يجب أن ننظر إليهم كبشر، مما يجعل أي شاب بإمكانه الإستلهام منهم والإعتقاد أنه بقدرته أن يصبح مثل بن مهيدي وغيره من هؤلاء الرموز الأبطال.

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى