مهنة “تأكل” أولادها
بشغف كبير تخطو وتخُطّ أولى خطواتك بها، تنقلك من عالم لآخر، لتأخذك إلى حيث الأضواء، فلا يكاد يكون من “أبنائها” من لا يذكر أول لحظاتها بالتفصيل، ثانية بثانية وكلمة بكلمة، مهما مرت السنون وتوالت الأيام وتراكمت التجارب والانشغالات والهموم أيضا.
إنها الصحافة “المتعبة” بقدر متعتها، كل من تشرف بالانتساب إليها، أو غالبيتهم على الأقل، لا يمكن أن ينسى بدايته الأولى مع هذا العالم الجميل، الكلمات الأولى التي خطتها يده، والتعليقات الأولى التي تلقاها على مقاله من المسؤول، والأول مقال نشر في الجريدة، حتى يكاد يكون ذلك اليوم يعادل عيد الميلاد، وتعادل صفحة الجريدة التي حملت اسمك لأول مرة شهادة كبيرة تفخر بتعليقها على الجدار.
ولكن كما هو معلوم بأنّ النور يضيء وقد يحرق أيضا، فكما أنّ الاقتراب من هذه المهنة يلهم فيتحول الصحفي إلى صانع رأي ومنير للرؤى، حتى يقوم بدور المستشار والناصح والهادي والمحامي على حقوق الضعفاء والمحرومين، من خلال مقالات الإرشاد ونقل خطابات التوعية وإسماع صوت المهمشين، فإنّ كل ذلك قد يؤخذ شيئا فشيئا من حياة الصحفي.
وعلى غرار الشمعة التي تذوب لتبدد الظلام، كذلك الصحفي الذي يفني حياته من أجل إلقاء الأضواء على درب الآخرين، باختياره وحبا في مهنته، بعدما تتحول إلى جزء من حياته، لا يعيش إلاّ بها، مثل السمك داخل الماء، فتحس بكل حرف وكلمة تكتبها، وتمنحها نصيبا من روحك لتعبّر عنك، وتشعر بشكل مختلف بأوراق الجرائد و”صوت” تصفحها.
هي هذه المهنة التي جعلت أبنائها يقفون في الصفوف الأولى في مواجهة ظلام العنف في العشرية السوداء، لتختلط الدماء بالحبر، وتسقط قائمة طويلة من عشرات الشهداء بداية من اسماعيل يفصح وعمر أورتيلان وغيرهما كثير، مرورا بمن فقدتهم الأسرة الإعلامية الكبيرة على غرار عثمان سناجقي ونذير مصمودي، ونذير سبع، وصولا إلى عبد الرحمان بطاش ومحمد شراق الذي أبكانا حتى جفّت الدموع في أعيننا، وأشعرنا بأنّ الحياة مهما كانت قصيرة تصير طويلة بالانجازات والبصمة التي يخلّفها القلم الحر والكلمة الشريفة، وتؤكد لنا بأنّ الصحافة التي “تأكل” أبنائها لا تفني إلاّ لتحي، ولا تنهي حياةً قبل أن لتكتب تاريخا بأحرف من نور تظل خالدة أبد الظهر.