أعمدة الرأي

نحو فهم أعمق للثقافة التاريخية

 – مقاربة معرفية

لقد أطلق أجدادنا على التاريخ اسم (أبي العلوم) وهم يدركون جيدا أن المعرفة التاريخية تتطلب إلماما بمعظم المعارف الإنسانية الأخرى ، لان التاريخ إنما هو حركة حياة بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معارف و خبرات .

بالإضافة إلى ذلك فالتاريخ أيضا عنصر لا غنى عنه لإتمام العلوم السياسية و الاجتماعية ، لأن الملاحظة المباشرة للظواهر الاجتماعية في حالتها الاستاتيكية لا تكفي ، بل لا بد أن تضاف إليها دراسة تطور هذه الظواهر في الزمان – أي تاريخها ، ولذلك اتخذت كل علوم الانسان ( اللغات ، القانون ، الأدب ، الأديان ، الاقتصاد و السياسة …الخ) صورة علوم تاريخية كما أن العلوم الاجتماعية اذ تزودنا بمعرفة الحاضر ضرورة للتاريخ كي يتصور الواقع و يبرهن عليها مستندا إلى الوثائق .

لكن أكبر فضل للتاريخ هو أن يكون بمثابة أداة حقيقية للثقافة العقلية ، حيث يزيد العقل صحة ، ويشفيه من داء السذاجة في الاعتقاد ، زيادة على ذلك فالتاريخ يهيئنا لفهم  قبول أعراف مختلفة، ويجعلنا نتبين ان المجتمعــات قد تحولت مرارا وبذلك يعودنا على تنوع الأشكال الاجتماعية ، ويطمئننا من خوف التحولات .

ومن هذه المنطلقات كتب المؤرخ الفرنسي المعروف (هنري كروسيه ) منذ ما يزيد عن نصف القرن كتابه المعروف (رصيد التاريخ ) محاولا فيه أن يمارس قراءة متأنية للتاريخ الأوروبي المسيحي ، وأن يمضي إلى ما وراء الوقائع و الأحداث بحثا عن الجوهر و المغزى ، وكم نحن بحاجة إلى هذه المحاولات لكي نتعامل مع تاريخنا بحثا عن رصيده الباقي القادر على الحضور في قلب العصر ، وفي المستقبل ، من أجل إعادة صياغة بما يجعله أقرب إلى مطامحنا وهمومنا من خلال التصور المحكم لانتمائنا الحضاري . فالتاريخ كما يقول يوركات :” هو سجل لما رآه عصر يستحق الذكر في عصر آخر ” ، و إذا كان التاريخ يفهم اليوم في ضوء الحاضر ، و الحاضر يفهم في ضوء الماضي ، فالوظيفة المزدوجة للتاريخ هي تمكين الإنسان من فهم مجتمع الماضي و زيادة سيطرته على مجتمع الحاضر و يلاحظ أنه مادام الماضي و المستقبل جانبين من نفس الزمن ، و أن الاهتمــام بالماضي و الاهتمام بالمستقبل متصلان و التاريخ يبدأ بتوريث التقاليد ، وهي تعني نقل عادات الماضي ودروسه و ضوء خبرته إلى المستقبل ، وهذان  هما اللذان يبرزان التاريخ ويفسرانه ، ويقال أن المجتمع الذي يفقد اعتقاده في قدرته على التقدم في المستقبل ، سيتوقف سريعا عن العناية بمتابعة تقدمه في الماضي .

– الكتابة وتدوين التاريخ 

إن التاريخ معرفة ذاتية لذهن حي ، ومع أن وقائعه ماضية فإنها يجب أن تبقى حية في ذهن المؤرخ ، و لا يعترض على ذلك بكون الواقعية غير ماثلة أمامه لأن الدليل عليها قائم “هنا” و “الأن” فليس موضوع التاريخ هو الماضي ، ولكنه الماضي الذي نملك عليه دليلا تاريخيا ، و الذي يصبح بعد ذلك حيا في ذهن مؤرخ يعيش في الحاضر ، وهكذا يصبح التاريخ حدسا وليس مجرد فكر ، حدسا يحي فيه الماضي في المؤرخ الحاضر ، ويبلغ من ذاته درجة الوعي ، ولا مجرد الفهم الظاهري .

إن التاريخ الذي يقف عند مجرد الوصف أو السرد جسم بلا روح ، فإن نفخ فيه المؤرخ من روحه فقد بعث الحياة في الماضي الميت ، ومن ثم فإن كل التاريخ تاريخ معاصر . ويرى بعض رجالات الأدب أنه سواء أكان التاريخ علما أم لم يكن ، فهو الفن من فنون ، و أن العلم لا يمكنه أن يعطينا عن الماضي سوى العظام المعروفة اليابسة ، و أنه لابد من الاستعانة بالخيال لكي تنشر تلك العظام ، و تبعث فيها الحياة ، ثم هي بحاجة كذلك إلى براعة الكاتب حتى تبرز في الثوب اللائق بها . ويقول ف.هونشو أن التاريخ ليس علم تجربة ، واختبار ، ولكنه علم   قد وتحقيـــق ، و أن أقرب العلوم الطبيعية شبها به هو علم الجيولوجيا ، فكل من الجيولوجيا استخلاصه عن الماضي و الحاضر على السواء . ويزيد عمل المؤرخ عن عمل الجيولوجي من حيث اضطرار الأول إلى أن يدرس ويفسر العامل البشري الإرادي الانفعالي ، حيث يقترب بقدر المستطاع من الحقائق التاريخية ، وعلى ذلك نجد التاريخ مزاجا من العلم و الأدب و الفن في وقت واحد .

وإذا كان علم التاريخ ضروريا للدراسة الخاصة و العامة ، و لثقافة الشعوب بعامة ، فلابد من بحثه ودرسه وكتابته ، قبل أن يدرس في المعاهد و المدارس ، وقبل أن يقدم للمختصين و للمثقفين على السواء ، وينبغي أن يتم ذلك بطريقة وافية دقيقة صحيحة ، بقدر ما في طاقة المؤرخين من جهد وصدق و أمانة و عدل وذكاء و إحساس و فن وذوق ، وبذلك يمكنهم أن يدركوا آراء الغير ونوازع الآخرين ، ويلتمسون أخبار الأبطال ، وصناع التاريخ ويحسون ما جاش بصدورهم وشتى العواطف ، ويفهم بقدر المستطاع الدوافع التي حركتهم لاتخاذ سلوك معين في الزمن الماضي ، يشارك رجل الأمس مواقفهم في ساعات التاريخ الفاصلة في فترات المقاومة في خضم الثورة و الانقلابات ، وفي ظروف النجاح و الفشل و إن آثار الإنسان لتتحدث إلى قلب المؤرخ المجيد فيجد في ثناياها صدى البشر وصدى نفسه ، وتتجلى فيه روح العلم والفن ، ويبعث التاريخ حيا ، ويحيا في التاريخ ويعيش للتاريخ .

إذا فما الطريق الذي نسلكه لدراسة التاريخ و كتابته ، وما منهج البحث الواجب إتباعه في دراسة التاريخ و كتابته ؟

منهج البحث التاريخي هو المراحل التي يسير خلالها الباحث حتى يبلغ الحقيقة التاريخية – بقدر المستطاع – ويبدأ باسترجاع الحوادث التي أدت إلى وجود الوثيقة ، مبتدئا من الوثيقة ذاتها إلى الحادثة بطريقة عكسية ، لأن الحادثة سبقت الوثيقة ، أما نقد الوثيقة فيشمل التثبت من صحتها ببحث لغتها وخطها – وغير ذلك من نقد خارجي ، ثم يأتي نقد محتوى الوثيقة من بيانات و معلومات ، مما يعرف بالنقد الداخلي ، ويتبع المؤرخ ذلك كله بتفسير الحوادث بعد اكتمال صورتها ، ويقدمها إلى المختصين بخاصة و القراء بعامة .

وتلخـــص هذه المراحل في تزويد الباحث نفسه بالثقافة اللازمة له و إثبات الحقائق التاريخية ، وتنظيمها وتركيبها ، و الاجتهاد فيها ، وتعليلها و إنشاء الصيغة التاريخية ، ثم عرضها عرضا تاريخيا معقولا . وينبغي علينا أن نلاحظ أنه ليس المقصود بالحقيقة التاريخية التوصل إلى الحقيقة المطلقة ، إذ أن هذا أمــر غير مستطاع لعوامل مختلفة ، مثل ضياع الأدلة و انطماس الآثار ، ومثل الأغراض و المصالح ، ومن ذا الذي يمكنه أن يعرف الحقيقة في الماضي أو في الحاضر وهل يمكن للإنسان أن يعرف حقيقة ذاته تمام المعرفة ؟ فالحقيقة التي يصل إليها المؤرخ هي حقيقة صحيحة نسبيا ، وكلما زادت نسبة الصدق فيها اقترب التاريخ من أن يصبح تاريخا بالمعنى الصحيح في حدود إمكانه . دارس التاريخ يحتاج إلى تفهم الظواهر الاجتماعية من أجل تفسير الأحداث التاريخية وتقويمها – ولا غنى لأحدهما عن الآخر ، لأن التاريخ في أبعاده الثقافية و الحضارية ليس جزءا أساسيا من عمله – و إنما هو محاولة لربط الأحداث بعضها مع بعض برباط يجعل وجودها وتسلسلها على النحو الذي وقعت به مفهوما عند القارئ – وهذا هو التفسير – ثم يستخرج العبرة المستفادة منها ، وهذا هو التقويم .

من أجل التفسير و التقويم – اللذين هما لب دراسة التاريخ – فلا بد من الرجوع إلى القضية الرئيسية التي تحتاج إلى الرجوع إليها مع كل علم من العلوم الاجتماعية ، وهي قضية “الإنسان” : ما هو ؟ ما تكوينه؟ ما غاية وجوده؟ ما موقفه من السنن التي تحكم حياته ؟ ما موقفه من الضغوط الواقعة عليه من داخل نفسه أو من خارجها ، ما معيار انجازاته؟

وإذا لم نحدد الإجابة الواضحة على هذه الأسئلة فكيف نفسر التاريخ ، وكيف نقوم أحداثه؟ وماذا يبقى ألا أحاديث مفككة ، قد تصلح لتزجية الفراغ ، ولكنها لا تصلح للعبرة و لا تحقق الهدف من دراستها بينما الله سبحانه وتعالى يوجهنا توجيها واضحا للسياحة التاريخية في الأرض ، واستخراج العبرة من أحداث التاريخ ” قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل” ، لأن التاريخ مستودع السوابق السياسية و الحضارية .. إن مشكلات اليوم طرحت بالأمس بشكل ما .. هذه المشكلات تبعث فينا شعورا بتعقد الظواهر الاجتماعية النفسية و تقلبها ، إنها تهيئ لنا اكتساب ملكة الاستدلال بالأفعال الظاهرة على البواعث و الأفكار الباطنة .

و إذا كان التاريخ لا يعيد نفسه ، إلا أنه ما من حادث يحدث إلا ويزيد في محيط كل حادث يترتب عليه ، بمقدار كونه علة في حدوثه … وبذلك تكون الثورة الضخمة المتجمعة من تجارب الماضي يجب أن تبقى ..يجب إنشاء ذاكرة للجنس البشري .. وذاكرة الجنس البشري هي التاريخ ! أو ما نطلق عليه الثقافة التاريخية .

 -مزايا الثقافة التاريخية

إن الثقافة التاريخية تنمي الحكمة ، التي يولدها عمق الاختبار وسعته ، و التي تلح في التساؤل حتى تصل إلى الأعماق و الجذور . فإذا انتقلنا من مجال الفكر ، وجدنا العمل التاريخي المبدع كما يتطلب صحة الإحساس بالحاضر و التطلع إلى المستقبل و الإقدام عليه ، لا يمكن أن يكون مبتور الصلة بالماضي ، ذلك أن : ” الإنسان صانع التاريخ ليس (مستقبليا) مطلقا سابحا في الرؤى و الأحلام ، ولا (حاضريا) مطلقا غارقا كل الغرق فيما حوله من مشكلات ، و إنما و يعيش في توتر دائم بين الحاضر و المستقبل و الماضي ، فيكون من أثر هذا التفاعل العمل التاريخي المبدع: الأمين للماضي المتسامي عليه ، المتغلب على الحاضر ، المخطط للمستقبل الداخل في صلب الحضارة المسهم فيها ، المتشوق إلى ما يأتي بعده يتخطاه في مجالات الصنع و الإبداع و الإسهام الحضاري ، هذا التاريخ الخطر ، محبوب ، مفيد ، وهذا ما يضاعف الخطر ، لأن الطعام المعرض للتلوث و الميكروبات ، سريع التلف تزداد خطورته إذا كان لذيذ الطعم مغريا بالمذاق مثير للشبهة !

إن الثقافة التاريخية – وهي خلاصة ما يجني من جهود في استكشاف – عامل فعال في تكييف نظرته، وتحديد اتجاهه بالنسبة إلى الحياة بكاملها ماضيا وحاضرا و مستقبلا . و الثقافة التاريخية قد تكون معارف متنوعة ، أو معرفة موحدة متماسكة، و كلما تحققت المعرفة بالتدقيق و النقد و المقارنة و المقابلة ، كانت الثقافة التاريخية أصح علما و أفعل أثر في سلامة النظر واعتدال الحكم و الثقافة التاريخية ملكات عقلية  تتولد خلال المجاهدة لاكتساب المعرفة التاريخية ، وهي وسائل لاكتسابها وضوابط لضمان سلامتها ، ودوافع لاستمرار نموها وتوسعها ، و الثقافة التاريخية بواعث نفسية وفضائل خلفية تنمو في الإنسان وتطبع شخصية بكاملها . وهذه هي الثقافة التاريخية ، باقة تختلط فيها الأزهار الثمينة و الورود الجميلة و الرياحين ، بالأعشاب التافهة و الأحطاب اليابسة و أشباه الزهر .. مما ليس بزهر! ولكي نصل إلى الأزهار و الورود و الرياحين لابد أن تدمي أناملنا الأشواك ، لابد أن نقوم بجهد ، عقلي ، علمي ، نفسي ، ليس باليسير.

– عدالة المؤرخ في صحة الثقافة التاريخية

ولضمان سلامة الثقافة التاريخية ، لابد أن يمارس المؤرخ النقد ، وأن يتمتع بالعقلية العلمية ، و الخلق العلمي ، ويشترط في المؤرخ : العدل ، المعرفة و الصدق و أن يكون حسن العبارة عارفا بمدلولات الألفاظ ، حسن التصور ، و أن لا يغلبه الهوى فيخيل إليه هواه الإطناب في مدح من يحبه و التقصير في غيره .

وبذلك تتحدد الثقافة التاريخية بناء على بعد الباحث عن التحيز و الأهواء ، ومطابقته للواقع بقدر المستطاع ، وبمعنى آخر يمكننا أن نقول إن قيمة الثقافة التاريخية تتحدد بناء على ثقافة الباحث ، و إلمامه بطريقة البحث التاريخي ، وبناء على استعداده الشخصي وملكاته ، وكثير من الثقافة التاريخية تعد من أمتع ثمرات العقول لنضج عقلية المؤرخ ، وثقافته الواسعة ، وخبرته الوطيدة ، وتبصره ونجاحه في إعطاء وحدة واضحة جامعة ، وذلك بعكس كثير من الثقافة التي تنسب للتاريخ ظلما ، و التي ينتجها من لا يفهم التاريخ ، ومن لا يملك النقد ، ومن لا يتصف بالصبر و الجلد و الصدق ، ومن لا يطلب سوى المنفعة ، ولن تزيد مثل هذه الثقافة عن مجرد معلومات موضوعية بين دفتي كتاب ، و تصبح مثل هذه الثقافة غير جديرة باسمها ، وقد لا تساوي الورق الذي طبعت فيه. ( سنتطرق في الدراسة القادمة إلى مؤتمر الصومام بين عدالة المؤرخ و صحة الثقافة التاريخية ) إن بقى في الحياة بقية.

  حميد لعدايسية جامعي و باحث

متعلقات

زر الذهاب إلى الأعلى