أعمدة الرأي

هل يُبرّر إقصاء مالك بن نبي من رواد المنظور الحضاري ؟!

تحت عنوان (رواد المنظور الحضاري )يورد موقع (مركز الحضارة للدراسات السياسية) أسماء، ( د.منى أبو الفضل -سيف الدين عبد الفتاح -د.نادية مصطفي- د. حامد ربيع -الدكتور سيف الدين عبد الفتاح – الدكتور المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري)، وكلهم -بالطبع-أعلام مصريون كبار وأفاضل، رحل منهم لرحمة الله ؛ منى أبو الفضل و دحامد ربيع . ومتع الله المتبقين منهم بالصحة والعافية . وهم جميعا على المستوى تجسيد الرؤية الحضارية خصوصا على المستوى البحث والإبداع السياسي الفكري الإسلامي ، دخلت بالفكر الإسلامي السياسي لسياقاته المعاصرة ، متجاوزة الطرح السطحي الذي يقف عند حدود كتابات الأقدمين فيما أبدعوا لعصورهم .

ولو شئت الدقة لقلت إن من يصنف من هذه الأسماء اللامعة ضمن المفكرين والمجددين أصحاب المدرسة الفكرية والأكاديمية إثنان هما : الدكتور حامد ربيع والدكتور عبد الوهاب المسيري رحهما الله تعالى . وغيرهما أعلام كبارلا زال الاحياء منهم يواصلون العطاء والإبداع والابتكار وبناء المرتبة والمنزلة التي تطبع الشخصية لإبداعية الفكرية المميزة لكل واحد منهم ، بارك الله جهودهم وزادهم فضلا وعلما ونفعا .

لكن الملاحظة التي لا يمكن لمنصف أن يتجاوزها هي : بأي معيار يتجاهل أو يتجاوز أبرز أعلام هذا المنظور ومهندسه الفذ الاميز المفكر مالك بن نبي رحمه الله تعالى ؟!!

فربما كان معيار تصنيفهم لهؤلاء المبدعين الكبار هو المدرسة الفكرية الإسلامية المعروفة بـ (إسلامية المعرفة ) ، فقد فضلت الدكتور نادية مصطفى ومركز الدراسات المعرفية صك مصطلح (المنظور الحضاري ) بديلا عنه، فحتى لو سلمنا بهذا المبرر ليقتصر على أسماء عاصرت المدرسة وعملت لها ومعها على نحو مباشر أو غير مباشر، ومن لا إنتماء له للمدرسة (تحيديا الدكتور حامد ربيع ) الذي عمل باحثا أكاديميا مكونا للباحثين الذين حملوا لواء البحث الفكري السياسي الإسلامي التجديدي الجامع بين الرسوخ في معرفة ودراسة الفكر التراثي والإضافة الحضارية المعاصرة . قلت لو سلمنا بهذا المبرر فإن مالك بن نبي رحمه الله تعالى يعد في طليعة المفكرين الحضاريين الذين أنطقوا الفكر السياسي العربي والإسلامي المعاصر من خلال معالجات واقعية حيوية مسلحة برؤية فكرية إبداعية جديدة عبقرية هضمت الفكر الغربي وثقافته ، ووظفته بوعي عجيب متفرد ؛ صاحبه لا يتمع برسوخ معرفي ديني لكنه يملك روحا صقلتها الأصالة الإسلامية بالزاد القليل الذي تلقاه في بيئة مسلمة شارفت على مسخ استعمارين خارجي وداخلي خرافي ومتقاعس .

ثم إن المنصف يضع مالك بن نبي رحمه الله على رأس الفكر السياسي الحضاري الإسلامي المعاصر ؛ كونه تناول مشكلات الأمة الإسلامية السياسية الكبرى بوضعها في إطار المشكلة الحضارية الكبرى ذات الوجهين الرئيسين هما : التخلف والتقدم . واتخذ من الزمن في بعده السياسي المحطات التغييرية الكبرى التي طالت الأمة مثل (معركة صفين) والنقلة التي انتقلت إليها الأمة سياسيا ظاهرا وحضاريا عمقا وحقيقة ، وهي لاتزال بعد أربعة عشر قرنا تنتج الأزمة نفسها بصور عديدة أخرها التوظيف الطائفي المدمر لبلدان وشعوب وأمة برمتها تتهيأ بكل مال لديها من استعداد وإمكانات مادية ومعنوية في حالة فريدة من نوعها في تاريخ الأمم لتلقى المصير نفسه وتنتحر. أي أن ذاك الحدث الغابر في تاريخ الأمة قرر مصيرها لقرون مضت، وهاهو اليوم يعود جذعا كي تتلقفه قوى التخطيط والمكر العالمي وتضع الأمة في مجراه بكل عنف وشراسة وتدمير ذاتي تعيه وتصرّ على الانصهار فيه بتصميم وحسم صارمين ، في حين تزدري وتتجاهل وتحتقر وتهاجم كل فكرة تناديها إلى طريق الخروج من الكارثة التي تعصف بها منذ قرون .

وكذا المحدد الزماني الأخر وهو ( ما بعد الموحدين ) فقد ربط حلول ليل التخلف على العالم الإسلامي بهذا الزمن السياسي الذي ذهل عن مقدمة ابن خلدون التي بقيت طي النسيان والانتباه حتى أخرجها المستشرقون للضوء ، فانهالت الأقلام ممجدة أوقادحة في تلك العبقرية التي سبقت الزمن وفات الأمة من التوجه نحو طريق الحضارة بقدر ما نست تلك العبقرية التي تجاوز صاحبها رحمه الله نغمات المدح والذم والتمجيد البلاغي والمفاخرات والنعرات العصبية القبلية والدينية والسياسية إلى تحليل مسار الحضارة والدولة والعوامل التي توجه وتتحكم فيهما .

ولك بعدئذ أن تنتقل لزاوية البناء الحضاري للأمة من زوايا مشكلات الحضارة في قضاياه السياسية الكبرى :

كتاب نحو كومنولث إسلامي : الذي فرّغ فيه تصوراته المنهجية الفكرية والعملية العميقة لبناء التلاحم الإسلامي في إطار تسمح التحولات الحضارية الكبرى في القرن العشرين التي تماسكت فيها النماذج الاتحادية الفاعلة حضاريا ، وفرضت نماذجها الحضارية تلك في طليعة قيادة البشرية بكل الأساليب التي ابتكرتها خيرها وشرها .

وكتاب الفكرة الإفريقية الآسيوية الذي اختطف فيه ظهور تكتل عدم الإنحياز ، وعمل على تحويله فكريا لفكرة استراتيجية تسلك العالم الإسلامي ضمن قوة مستضعفة بموازين القوة العسكرية والاقتصادية ، لكنها تملك مقومات التحول إلى قوى متطورة ومؤثرة في التحول الحضاري استراتيجيا ، وفي مقدمتها الهند . فاستثمر في تحليلها المؤهلات الروحية والثقافية لتلك القوى ، وعناصرها المؤهلة للتفاعل إيجابا عبّر عنها تعبيرا أخلاقيا عبقريا بوصف حاملها أنه (رجل فطري ) مقابل الرجل الذي صنعته الحضارة الغربية وحوّلت كثيرا من انسانيته وفطريته إلى مادية تفجرت من بين ما تفجرت فيه في الظاهرة الاستعمارية .

وقد استنفر مالك رحمه الله كعادته قدراته الفكرية والثقافية الهاضمة لمنتاجات الفكر الحديث وتاريخ الحضارة الإنسانية ليصوغ فلسفة يلج بها الرجل الفطري بروحانيته ومبادئه الأخلاقية عالم الحضارة التي تضع الإنسانية أمام نموذج جديد نسيته منذ قرون قليلة ،وهو إنسان التعايش والسلم والإضافة الحية الإيجابية للحضارة الإنسانية .

ففتح مالك -بذلك- على مستوى التفكيروالاستشراف مسارا للإسلام يبعث أشعة مبادئه في أوصال الحضارة التي أتخمتها المادية والعنف، وسيطرة روح السوق المتحجرة القاسية . عبر نمط من التحالف الحضاري الذي قدر أنه لازال على قدر من الفطرية غير الملوثة بالعنف والاستعمار، والقوة العسكرية التي كانت تهدد العالم بالدمار في أي لحظة .

وبما أن مالك نموذج للمفكر المستقل على نحو نموذجي يعز أن تجد له نظيرا في عالمنا العربي في القرن العشرين ، مما منح فكره شخصية صلبة مستقلة عن إكراهات وتوجيهات الحكومات و الجماعات والتنظيمات ؛ والدليل أنه بقدر ما يرتبط شخصيا بحاكم أو سلطة أو شخصية فكرية أو حركة ، فقد كان كل أؤلئك مادة للملاحظات النقدية النافذة الدقيقة على ضوء رؤية المخارج الحضارية من نفق التخلف المظلم .

– كتاب (وجهة العالم الإسلامي) بجزئيه الأول الذي خص فيه مشكلة التخلف في العالم الإسلامي على مستوى القابلية للاستعمار على نحو مبدع لم يسبق إليه ، ولا أعتقد أنه أُرتقي إليه على النمط المنهجي الدقيق الذي عالج به المشكلة ، ورسم التخارج منها بإرادة ذاتية ، لم تحقق منها الأمة شيئا ذا بال ، بل يمكن القول دون افتئات عليها أنها الآن ارتكست إلى حال أشد سوءا مما كانت عليه آنئذ ؛ لأنها استقبلت كل خطاب وتوجيه وفعل يزج بها في دورة جديدة من القابلية للاستعما ر موزعة بين حالات الاقتناع والرضوخ والعجز والتيه والمشاركة الفعلية المتعمدة (يمكنك التعبير عنه بجرائم خيانة موصوفة ومبيتة ) ضد الذات الحضارية، وانخراط جزء منها في حالة تحضر مزيف تسوق له أجهزة دعاية ضخمة ومؤثرة عالميا ، وتقدمه على أنه النموذج .

أما الجزء الثاني منه فقد خصصه للمسألة اليهودية (لم بنشر إلا بعد ستين سنة من كتابته ) فقد خصصه للظاهرة الاستعمارية لكن من منطلق معظلة كبيرة جسدتها إقليميا ظاهرة الصهيوينة المسيطرة وكيانها الغاصب ، ومن هنا فالكتاب في أطروحته الجوهرية يفتح نافذة على حقيقة السيطرة اليهودية على العالم ، على نحو غير مسبوق ، فيختلف عن النظرتين القائلتين بأن (الصهيوينة ) و(الكيان الصهيوني) هما جزء من الجماعة الوظيفية التي استعملها الغرب لتحقيق أهدافه ، وكذا النظرة الأوسع إنتشارا وهي السيطرة اليهودية الخرافية على العالم ؛ إذ يعود بالمسألة إلى جذور أبعد في التاريخ بتوجه اليهود إلى الغرب وأوروبا لأسباب نفسية وعقلية في سياق تاريخي ، تتعلق بالطرفين (اليهودي والأوروبي ) ، فيتخذ منها الطرف الأول ــ بعد إكتشافها ــ مادة مناسبة للتأثير والتوجيه والصياغة . ومنها يتتبع خيوط كل ذلك في الجسم الأوروبي ثم الغربي ، ثم الغربي بشقيه الحضاري الرأسمالي والماركسي – الاشتراكي ، فيكون الحال – حسب التحليل (البن نبي)- الغرب ( قارة وحضارة وظيفية ) لدى اليهود ، وليس شعبا أو جماعة.

أما عن علاقة هذا البعد بوجهة العالم الإسلامي ؛ فهو يمثل العامل الخارجي للتوجيه والتاثير في العالم الإسلامي الذي عملت فيه عوامله الداخلية بريادة القابلية للاستعماردور المُفعل المُذكي بصورة مذهلة للعوامل الخارجية .

ليلتقى كل أولئك عند نقطة الخروج من النفق وهي مشكلة النهضة والحضارة التي ستؤهل العالم الإسلامي لتحقيق وجهته الحقيقية ، وتمنحه الإمكان الفعلي لمواجهة كلا النوعين من العوامل .

على كلّ الكتاب لم يلق حقه من النظر والدراسة ، فضلا عن تمحضه للاستفادة المطلوبة على مستوى الأمة : مثقفين وهيئات سياسية وحزبية وثقافية وفكرية وعلمية ، رغم أهميته الخاصة بمعايير كثيرة منها : ربط حال الأمة بماضيها القريب الذي عرف تبدلات في الأحداث دون الجوهر؛ أي العاملين الخارجي والداخلي اللذان تتعوق بهما النهضة والخروج الحقيقي من التخلف، والجديد – للأسف – هو تبييت نية الإصرار على التمكين للعاملين معا ؛ كي يكبحان كل نية حقيقية للتجاوز . بل والاحتيال الوقح – خاصة من بعض النخب الحاكمة والمثقفة – لتحويل العاملين إلى سببين عبقريين لوهم التقدم والحكامة والعبقرية السياسية خصوصا !!.

وبمعياروضع اليد على التحولات المرتقبة في كل مرحلة يشهدها العالم المعاصرفي الجاري والمستقبل تحت إشراف عبقرية الخبث اليهودي لاستمرار الحفاظ على الموقع .

ومعيار آخر في منتهى الأهمية ؛ إذ يكشف لنا مالك بن نبي رحمه الله تعالى على عبقرية جديدة في تفكيره وشخصيته الثقافية الثرية بالإبداع والابتكار ؛ ألا وهي (مالك المخطط الاستراتيجي للدعوة الإسلامية ) ، خاصة في مداها العالمي أي على خط رسالة الأمة الإسلامية في بلاغ الدعوة من خلال قيمها العالمية والإنسانية ، والقيمية الأخلاقية .

وأكتفى بهذه القدر من النماذج التي تبرهن على ريادة الفكر السياسي الحضاري الذي تصمنته كتابات مالك بن نبي رحمه الله .

ويمكن للباحث في هذا الاتجاه أن يتتبعه في كل كتاباته ، فسيجد ما ليس مفاجئة لمن يعرف فكره جيدا أنها تكاد تكون معظمها إن لم تكن كلّها تتراوح بين موضوع وعمق ومباشرة سياسية وأبعاد سياسية .

وتجدر الملاحظة بأن مالك بن نبي رحمه الله حالة فريدة من نوعها على الأقل في جيله حين طوع ثقافته الغربية الواسعة لرؤية حضارية أصيلة فهم و ضبط من خلالها بمنهجية دقيقة مشكلات الحضارة ، ورسم سبل معالجتها ، وللأسف فإن الأمة إلى اليوم لم تقف لحظة صدق مع الذات وتستشعر مشكلاتها الحقيقية ، وتفقه كيف تتجه لحلها بإيجابية وفعالية على نحو ما منح مالك عمره وعبقريته له .

فإذن لا مبررللتجاهل والاستبعاد اللذين كانا سببا في كتابة هذا المقال،بهذا المبرر حتى لو فرضنا أنه معيار التصنيف ؛لأنه سيصب في خطيئة الإقصاء القصدي أو اللاشعوري الذي لا زال يسيطر على مراكز بحث ومعرفة ، وكثير من النخب العربية والإسلامية التي تحكمها روح الاكتفاء بالذات وأولي القربى الوطنية والعرقية، وهذا ما يستحيل معه التقدم الحقيقي نحو الخروج من نفق التخلف؛ إذ حسبه أنه يصرف بصيرته عن إدراك المنهجية السليمة الفاعلة للمعالجة الجذرية لمشكلات التخلف والدمار الحالين بالعالم الإسلامي ، وبالضرورة تزييف لحقيقة المشكلات وحلولها .

 

متعلقات

زر الذهاب إلى الأعلى