أعمدة الرأي

بوتفليقة يُحدث قطيعة مع عقلية الإنقلاب في الجزائر

تعدّدت التأويلات والقراءات لقرار رئيس الجمهورية بإحالة الفريق محمد مدين المدعو التوفيق على التقاعد، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وكلّ جهة أدلت بدلوها، لكنها لم تصل إلى استقراء ميكانيزمات حركة التغيير والإصلاح التي عرفتها مؤسسة المخابرات والعديد من الأجهزة الأمنية الأخرى، بل وحتى العديد من المؤسسات المدنية التي ستطالها تداعيات حركية التغيير والإصلاح هذه، وبرأيي أن من مارسوا التحليل إنطلقوا من الهوامش، ولم يستندوا على الإطلاق على الإشكاليات الأساسية، التي تضرب بجذورها إلى ما قبل استقلال الجزائر، أقول ذلك لأن من يجهل تاريخ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لا يُمكنه أن ينجح في تشفير قراراته المصيرية الكبرى.
وحتّى أُبسّط الأمور على المُتابع والمُهتم بما يجري في الجزائر، يكفي أن أرجعه إلى المرحلة السابقة عن استقلال الجزائر، عندما كان الرئيس الراحل العقيد هواري بومدين قائدا لأركان جيش التحرير الوطني، وكان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من أقرب مُقرّبيه، فإذأك تمّ تأسيس أول جهاز للمخابرات،أُطلق عليه إيجازا تسمية “المالغ” أي وزارة التسليح والإتصالات العامة، وهو الجهاز الذي ترأسه العقيد عبد الحفيظ بوصوف المدعو “مبروك”، وإلتحق به العديد من الشباب الذين لبّوا نداء الثورة سنة 1956، للإلتحاق بصفوف الثورة، فهذا الجهاز المُخابراتي كان مُكلّفا في البداية بالإتصالات والتسليح وتوفير المعلومات لقيادة الأركان، لكن سرعان ما تحوّل إلى “بوليس سياسي”، كُلّف بمهمات خاصة، بالتنسيق مع قائد الأركان العقيد هواري بومدين، ومن بين المهمات الحسأسة التي نفّذها “المالغ”، هي الإنقلاب على الحكومة الجزائرية المؤقتة تحت رئاسة بن يوسف بن خدّة، وهنا أشير إلى أنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عايش تفاصيل ما حدث إبان هذه الفترة، وما لحقها، إلى غاية سنة 1978، أي وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين، حيث لم يكن هنالك أي إشكال كبير وحاد بين الرئيس هواري بومدين وجهاز المُخابرات، الذي كان يرأسه العقيد قاصدي مرباح، بحكم العلاقة “الجنينيّة”، التي كانت تربط قيادة الأركان ب”المالغ”، لكن بعد وفاة هواري بومدين، تحوّل عبد العزيز بوتفليقة إلى أبرز وأكبر ضحايا إرث “المالغ” السّلبي، على جهاز مخابرات الجزائر المُستقلة، حيث تمّ إبعاده عن النظام ككلّ، بل ووصل الأمر بجهاز المُخابرات إلى حدّ تشويه سُمعته، وإجباره على مُغادرة الجزائر لفترة طويلة، وبين هذا وذاك، عَيّن قاصدي مرباح الشاذلي بن جديد قائد الناحية العسكرية الثانية آنذاك، رئيسا للجمهورية، واستمرّ تأثير الإرث السلبي ل”المالغ” على المُخابرات الجزائرية، في عهد الشاذلي بن جديد، بل وبلغ مُستويات خطيرة للغاية، حوّلت الشاذلي بن جديد إلى مجرّد “قاراقوز” لا غير، طوال عُهداته، إلى غاية إقالته، وتعويضه بما سُميّ بالمجلس الأعلى للدولة، وهنا تضاعف تأثير جهاز المُخابرات، بحيث أصبح هو الآمر والناهي بل و”ربّ” الجزائر، وحتى الرئيس “الجنرال” اليمين زروال، لم ينجح في الإفلات من هيمنة جهاز المخابرات، في شخص مُستشاره الجنرال محمّد بتشين القائد السابق للمُخابرات الجزائرية، والذي عجّل برحيله من قصر المُرادية، لأنه حاول، أي بتشين استرجاع نفوذه على المخابرات، انطلاقا من منصبه الرفيع في الرئاسة، بحيث كان يُزاحم الجنرال توفيق مدين آنذاك في صلاحياته، لكنّ الأخير لم يفسح المجال لبتشين كي يلعب كما يشاء في مؤسسات الدولة، فكان أن غادر زروال الرئاسة مُصطحبا معه جنراله بتشين الذي انقلب عليه فيما بعد، حماية لمصالحه لا غير.
في ظلّ هذه الظروف، كانت عودة الرئيس بوتفليقة إلى السلطة، بعد مُفاوضات عسيرة رفض فيها الأخير أن يتولّى رئاسة غير كاملة للجزائر، بل ومُناصفة السلطة مع ضابط سابق في الجيش الفرنسي، وهو الجنرال خالد نزار، وبحُكم تجربة الرئيس بوتفليقة، ومعرفته بتفاصيل سير الأمور في السلطة، قبل الإستقلال وبعده، راهن على عامل الزمن في تحقيق التغييرات التي وعد الجزائريين بتحقيقها خلال العهدة الرئاسية الأولى،
فبوتفليقة كرجل ثوري وتاريخي، عايش ولادة أوّل جهاز مُخابرات في الجزائر، وكان من أبرز ضحاياه، وسمحت له الظروف أن يعود من جديد وبقوة كرئيس للجزائر لعهدات أربع، لا أظن على الإطلاق أنه يسمح باستمرار تأثير الإرث السّلبي ل”المالغ” على جهاز المخابرات الجزائرية، أقول ذلك لأنّ الرئيس بوتفليقة وخلال الحملة الإنتخابية للعُهدة الأولى، قالها بصريح العبارة: “لن أرضى بأن أكون ثلاثة أرباع رئيس الجمهورية”، وبرغم ذلك ساير الوضع، ولم يُقدم على تغيير مُفاجئ للمُعادلات، بل رتّبَ لها بشكل دقيق، ولا أستبعد هنا أنه نسّقَ بشكل كبير للغاية مع الفريق محمد مدين، الذي هو مُجاهد ووطني قبل كلّ شيء، لتحضير البلاد لانتقال جوهري ونوعي إلى جمهورية جزائرية جديدة، تتخلّص فيها من كلّ السلبيات المُتراكمة قبل وبعد الإستقلال، وهي التراكمات التي لم يكن أي جزائري يتصوّر في يوم ما أن البلاد ستتخلّص منها، لأنّ ما حدث مُؤخّرا سيُحدث قطيعة تامة مع الذهنيات التي كانت تضع مصير ومستقبل الجزائر رهينة لتوازنات اللوبيات وجماعات النفوذ.
من مُنطلق أكاديمي قبل كلّ شيء، أرى أن التغييرات التي حدثت، كان من الضروري إجراؤُها، لأنّ عقلية الجزائري في فجر الإستقلال، وطوال سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، لا يمكن أن تستمرّ في عصرنا الحالي، وهو ما يعمل برأيي، الرئيس بوتفليقة على ترسيخه، لتحضير الإنتقال السلمي البعيد عن العنف، إلى جزائر عصرية، يخضع فيها الجميع لسلطة القانون، عوض الرّهبة من أجهزة الأمن ومُساوماتها، هذه الأجهزة التي بات إجباريا عليها اليوم أن تُساير منطق التطور والعصرنة، لأن إرثنا الأمني وكما يعلمه الجميع، تحوّل إلى أداة لمُساومة الجزائر على مواقفها، الوطنية والإقليمية والدولية، والرئيس بُوتفليقة وكما هو ظاهر وجليّ، نجح في سحب البساط من تحت أرجل المُساومين بمن فيهم الفرنسيون على وجه التخصيص، الذين أشاع البعض أن الرئيس يعمل وفق توجيهاتهم، في حين أن بوتفليقة بما قام ويقوم به، إنّما يقطع وبشكل نهائي مع هذه المُعادلة الإستعمارية التي أبقت الجزائر تحت رحمة فرنسا والتخلّف في آن واحد، وللحديث بقية…

عبد القادر حبيبي
محام وخريج معهد الدراسات الدبلوماسية والإستراتيجية بباريس

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى