أعمدة الرأي

فرصة السعي نحو الأفضل

انخفضت أسعار النفط إلى مستويات لم تكن في يوم من الأيام تمثل مصدر قلق أو تهديد لأصحاب القرار و صانعي السياسات ، و المتخصصين في مجال الطاقة و التمويل في الدول الغنية بالموارد الطبيعية. فقد وصلت إلى مستويات جد متدنية، حيث تجمعت العديد من العوامل على مستوى الأسواق الدولية إلى وصول الأسعار إلى هذه المستويات التي لم تعرفها منذ أكثر من عقد من الزمن. فما هو المطلوب من السلطات العمومية أمام هذا الوضع المقلق و المعقد في نظر البعض، و المؤقت في نظر البعض الآخر. المطلوب هو استثمار هذا الانخفاض و الاستفادة مما يمكن ان نطلق عليه ” فرصة السعي نحو الأحسن أو الأفضل“. و ربما هناك من سوف يعلق مازحا لقد فات الوقت، كان بالإمكان فعل ذلك منذ عقود مضت عندما كان سعر النفط يتجاوز 100 دولار، كان بالإمكان الاستفادة من هذه العائدات و السير في خطى “الدول الناجحة”  التي تمكنت من تحويل هذه الموارد إلى تنمية حقيقية  و تحسين مستويات المعيشة للسكان مثل حالة النرويج. يمكن التعليق على ذلك بان كل ما يكتب صحيح و لكن ما زال هناك أمل لاستدراك أخطاء السياسات. فالضربة التي لا تقتلك تقويك كما يقول المثل العربي، و لكن هذا التراجع فرصة للسعي نحو الأفضل في إطار تصور مجتمعي شامل يحضى بالإجماع بين مختلف شرائح السكان و المخلصين من أبناء هذا الوطن من خلال الاستفادة من التجارب الناجحة في إدارة العائدات النفطية في العالم.

فلقد طبقت الجزائر منذ سنوات سياسات اقتصادية قائمة على الاعتماد المطلق على “الريع”، و رغم ما كتب آنذاك حول سلبيات هذه النماذج و الآثار السلبية المسماة  بالعلة الهولندية و لعنة الموارد التي تظهر في الدول المعتمدة بشكل مطلق على الموارد الطبيعية، فلم تكن لدى السلطات العمومية منذ سنوات طويلة الشجاعة الكاملة بالتخلي عن هذا النموذج و تبني  الإصلاحات الضرورية التي تمثل مفتاح النجاح للاقتصاد على المدى الطويل و يعود ذلك إلى العديد من الاعتبارات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية و حتى الثقافية. كما أن السلطات العمومية  لم تستفد و لم تحاول أبدا أن تفعل ذلك من الاستراتيجيات التي تبنتها الدول الناجحة في إدارة العائدات النفطية في خدمة الرفاهية الاجتماعية و الاقتصادية للسكان مثل تجربة النرويج و غيرها. و عجزت آنذاك أدوات و مؤسسات التخطيط القائمة بمختلف مسمياتها (الاستشراف) عن تصميم خطة للعقود القادمة كما تفعل مؤسسات الاستشراف في الدول المتقدمة، و رغم الإمكانيات المالية التي حظيت بها هذه المؤسسات فقد اقتصر دورها على تقديم جداول إحصائية خام  بدون توظيفها من اجل عملية التنبؤ للمستقبل. حتى لو قامت بعض الهيئات الرسمية بهذا العمل، فلم تكن السلطات العمومية مهتمة بما يقوله أصحاب الخبرة و الاستشراف، فقد أعمت طفرة النفط كل التطلعات نحو المستقبل، و لم يحظى مبدأ ” العدالة ما بين الأجيال” في الاستفادة من استخدام الموارد النفطية بأي اهتمام سواء على مستوى القرارات الرسمية أو حتى على مستوى القوانين  أو على مستوى الدساتير المتتالية، حيث لم تكن لدى المسؤولين آنذاك أي رؤية مستقبلية لوضع جزء من العائدات النفطية  في صناديق يطلق عليها بصناديق ادخار للأجيال القادمة كما فعلت بذلك العديد من الدول المرتبطة بشكل كبير بهذه الموارد كالنرويج و الكويت و الإمارات العربية المتحدة و غيرها من الدول النفطية. و لقد تكررت هذه الأخطاء في السنوات الأخيرة، و لم تكن هناك أي تصور شامل أو فلسفة موضوعية لإدارة هذه العائدات

كما أن الزيادة في الإنفاق طرحت العديد من التساؤلات حول هل كان لهذا الإنفاق اثر فعال على نوعية البنية التحتية و الهياكل المنجزة (الصحة و التعليم  و السكن)، كما لم تكن سياسة الدعم العام لعقود طويلة مضبوطة بأطر اجتماعية و في ظل العدالة ما بين الفئات الاجتماعية، و لم تقدم السلطات العمومية و منذ سنوات أي مرجعية أو أي تصور لهذه المعادلة الصعبة (تخصيص 1840.5 مليار دينار، ما يعادل 17.423 مليار دولار، كتحويلات اجتماعية برسم سنة 2016 التي تعادل حوالي 9.8% من الناتج المحلي الخام)، وهي مستويات قلّما تجد لها نظير في الدول النامية أو حتى الناشئة الأخرى في العالم، مما يبين غياب أي تصور للبعد الاجتماعي في عملية التنمية الاقتصادية المرغوبة.

ولا يقتصر الخلل فقط في جانب الدعم المباشر المقدم من طرف السلطات العمومية، بل ان السياسات التي تم تبنيها في مجال التشغيل من خلال التحفيزات المقدمة لمثل هذه البرامج لم تساهم بشكل واضح في إحداث تحول كبير على مستوى النسيج الصناعي و الاقتصادي، فبدل تشجيع ” المقاولات من الباطن” لتعزيز النسيج الصناعي و الشركات المتواجدة لتقليص فاتورة الاستيراد في مجال السلع الوسيطة، فقد كان الخيار هو تقديم الدعم بدون أي رقابة أو متابعة ميدانية مما أدى إلى إعادة تخصيص هذه المبالغ الضخمة إلى خيارات أكثر ما يقال عنها أنها بعيدة عن معالجة البطالة أو المساهمة في تحسين أسواق العمل. و لقد حذر صندوق النقد الدولي من هذا التوجه الارتجالي لمعالجة مشكلة البطالة، فقد كانت نسبة الإخفاقات كبيرة في هذا المجال و لا زالت المحاكم و إلى حد اليوم تعج بقضايا تبديد المال العام و عدم قدرة العديد من المؤسسات على تسديد ما قدمته البنوك.

كما ان المبالغة في طفرة النفقات و التي تمت و ما زالت من خلال عمليات السحب من صندوق ضبط الموارد ستؤدي إلى ارتفاع مستوى التضخم ( حيث ان زيادة عرض النقود بمعدل يفوق معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي سوف يخلق فجوة الطلب المسببة للتضخم فيرتفع المستوى العام للأسعار في الدولة، و سيؤدي ذلك إلى  استنزاف هذا الصندوق سيؤدي إلى تخفيض الادخار العمومي تم تكوينه منذ سنوات عديدة، مما يستدعى ضرورة تطوير أسواق السندات بدل اللجوء إلى صندوق ضبط الموارد أو الاحتياطيات الموجودة لدى البنك المركزي (بنك الجزائر)، لان التوسع في الإنفاق العمومي في الجزائر (سياسة توسعية) إلى تحفيز الطلب الداخلي من خلال رفع الإنفاق العام الاستثماري الذي يخصص في إقامة المشاريع الكبرى المتعلقة بالبنية التحتية و الهياكل القاعدية و غيرها. الواقع يبين ان نسبة كبيرة من الإنفاق تسرب إلى اقتناء الواردات و ليس المنتج الوطني (قدرت بعض الإحصائيات أن كل 1 دينار يتم إنفاقه من طرف الدولة 0.8 يتسرب إلى الخارج أي الواردات).

و من هنا تبرز لنا هذه الضغوط على المالية العامة و ميزانية الدولة مدى الحاجة إلى ضرورة إعادة النظر في نموذج التراكم المعتمد منذ سنوات على الريع، إلى نموذج يقوده الاقتصاد الخاص و الذي يؤدي إلى تنويع الاقتصاد و في ظل وجود مؤسسات ذات نوعية و معززة للنشاط الاقتصاد وفق معايير المسؤولية و الحوكمة و الشفافية، و قدرة مؤسسات الرقابة( البرلمان و المجلس الأعلى للمحاسبة) على أداء دورها في مرافقة المال العام إلى التوضيفات ذات العائد المالي و الاجتماعي. كما أن هذه التطورات التي يعرفها الاقتصاد الجزائري ستمثل فرصة سانحة و قوة دفع مواتية لإصلاح هيكلي عميق وواسع من اجل تعزيز فرص النمو و فرص العمل و هذا يحتاج إلى إجماع وطني و  اقتصاد تضامني من أجل السعي نحو الأفضل  و الاستعانة بالتجارب الناجحة التي أشادت بها المنظمات الدولية و التي استطاعت  الانتقال من اقتصاد قائم على الدين إلى اقتصاديات قائمة على الادخار و العمل و هنا نعود  إلى ما بدأنا به ” الضربة التي لا تقتلك تقويك”.

الأستاذ الدكتور زايري بلقاسم

أكاديمي و باحث بجامعة وهران

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى