أعمدة الرأي

حتى لا يُظلم عميمر

 

الظاهر أن وفاة الأسطورة اعمر الزاهي قد أجبر العديد من المهتمين بالفن والفنان الشعبي الراحل على محاولة فهم ما شاهدته أعينهم يوم تشييع جنازته. وجعل فضوليين يبحثون عن مناقب هذا الشخص الذي تمكن من حشد هذه الأعداد الغفيرة من المشيعين وراح البعض يدلي بدلوه منهم من كرر مقولات سابقة قيلت عند فقدان فنانين، استوقفتني إحداها بالرغم من أن قائليها ذكروها بحسن نية. وهي أن “الزاهي في حياته اشتاق تمرة وفي موته علقوا له عرجون”.

الراحل لم يشتق تمرة أو نصف تمرة، ولو كان لمح فقط للأمر لأتى له عاشقوه وما أكثرهم ممن ينتظر إشارة صغيرة من اعمر لكي يخدمه بما يحب ويهوى. لو اشتاق الزاهي تمرة أو أية شهوة من شهوات الحياة لتسابقت شاحنات محملة بالعراجين لتهدى له ويتسابق أصحاب الهدايا طمعا في أن يقبل الزاهي هداياهم، لكن الرجل الذي زهد في الحياة لم يطلب شيئا ولو أطال الله في عمره ما كان ليطلب شيئا.

البيت الذي ظل الزاهي يشغله منذ أن عرفه الناس حتى ولو كان متواضعا وموجودا في حي شعبي يفتقر لمرافق عدة، إلا أنه كان وظل في نظر الشيخ عشه ووكره الذي ألفه والذي لا يمكنه أن يبدله أو يغيره وما كان ذلك عليه بعسير لو أراد التغيير. لقد اختار الزاهي نمط حياته بنفسه ولم يفرضه عليه أي شخص أو أية ظروف، فلو كان هذا العابد المتصوف طالبا للمال لوفر لنفسه ما شاء من أموال بحفل واحد يقيمه في ملعب كرة قدم يتسع لآلاف الحضور وما أكثر عدد المتلهفين لسماع الشيخ على المباشر ممن لم يتمكنوا من حضور الأعراس التي أحياها الشيخ.

المكان والفضاء والحي الذي كان يهيم فيه الشيخ حبا وعشقا لم يكن جدرانا فعل بها الزمن ونقص الصيانة فعلتهم بل كان يمثل رمزية كبيرة في نفس اعميمر، الذي انتقل بعد سنوات الجمر والدموع خلال التسعينات من كرسيه الخاص بمقهى الكواكب غير بعيد عن مقام ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي إلى جوار بيته، حيث كان يجلس بالقرب من محل لبيع المواد الغذائية مقابلا لحديقة براق “مارنغو” سابقا. كان الحيز يمثل الكثير للشيخ الذي لا يجد نفسه إلا في مثل هذه الأجواء المليئة بالبساطة التي تلفها من كل جانب، كان عمي اعمر الذي من صفاته التحفظ وقلة الكلام يرد التحية على كل من يبادر بها صغيرا وكبيرا، وكان كل من ينل فرصة مقاسمة الشيخ في إحدى جلساته يندهش من طلاقة لسانه المهذب وهو الذي ظل يدعو الشباب الذين يؤدون الطابع الشعبي على الاجتهاد دون إغفال حسن السيرة التي يصفها بكونها رأسمال من يؤدي الأغنية الشعبية لا يجب عليه التفريط فيه مهما كان.

لو كانت في نفس اعمر الزاهي تمرة فما أكثر الرجال الذين كانوا يتشرفون بشراء بستان نخيل للشيخ ويهبونه إياه مقابل محبة خالصة لا غير. لكنها صومعته التي اختار التعبد فيها والغوص في أعماق الخلوي الذي جعل منه شيخا مميزا، حيث يؤدي نفس القصيدة والأغنية بطبوع مختلفة كل مرة، يندهش المتذوق للشعبي في كيفية نجاح الشيخ في الأداء رغم مخالفته اللحن والطبع والميزان، حتى صار يطلق عليه اسم “اعمر الخلوي”. البساطة لم تفرض على الزاهي لكي يجلب أكبر عدد من المحبين الصادقين في حبهم للشيخ، بل كانت اختيارا طوعيا لمنهاج حياة فضل أن تكون بسيطة إلى أبعد الحدود. لم يكن الزاهي يحب الأضواء وكان يتحاشاها إلى أبعد الحدود ليس خوفا من الاحتراق ولكنه اختيار بأن يبقى بسيطا متواضعا مما جعل محبيه يعشقونه أكثر. نعم الزاهي عاش وكسب ومات وترك، عاش كاسبا حب الناس واحترامهم الشديد وغاب دون أن تغيب محبة الناس لفنه ولتواضعه وأخلاقه وبساطته. صحيح أن الزمن منذ عقود لم يعد يضمن للبسطاء نجاحا وشهرة دون الانخراط في مسعى معين، إلا أن اعمر شذ عن القاعدة وتمكن من كسب الحب الذي يتعدى أحيانا حدود المعقول بالحفاظ على بساطته.

ما أسعد البسطاء والزوالية ومن لم يبدلوا تبديلا يوم تشييع جثمان الزاهي إلى مقبرة تسكنها عامة الناس، الأكيد أنهم وجدوا في ذلك ما يجعلهم يثبتون على نهجهم ويفرحون لكونهم آثروا حياة لا تشوبها الشوائب والملوثات.

شكرا الزاهي على كل شيء قدمته في حياتك ويوم جنازتك، ولا نملك إلا الدعاء لك بالثبات في قبرك ويوم الحساب مثلما ثبت في حياتك.

متعلقات

زر الذهاب إلى الأعلى