أعمدة الرأي

الأمر أخطر ممّا نتصوّر

كثيرا ما نسمع عن حالات أصبحت تمثل خبزنا اليومي حول نشاطات أجهزة الأمن و الجمارك و هي تترصد و تتعقب شبكات المتاجرة بالمخدرات و الممنوعات و التهريب و غيرها ، خلال الأيام القليلة الماضية تمكنت هذه المصالح من توقيف العديد من الأشخاص في مناسبات مختلفة و هم متلبسون بجرم تهريب العملة الصّعبة نحو الخارج ، و قد تبيّن الحجم المهول و غير المسبوق للأموال التي تمّت مصادرتها ، و مع كل محاولة إحباط تقوم بها هذه الأجهزة نصاب بالإحباط حينما نتساءل عن حجم المخدّرات و الأموال التي تفلت من رقابتها خصوصا حينما تصرح المديرية العامة للجمارك بعظمة لسانها بأنّ نسبة ما تتمكّن العصابات من تهريبه أو إدخاله هو أضعاف مضاعفة لما يقع في أيدي مصالح الأمن و الجمارك .

حينما تظهر مشكلة ما تعكس الإهمال و التسيّب الذي يعيشه قطاع معيّن فإنّها لا تتوقف عند حدودها التي قد تبدو لنا ، بل إنّها غالبا ما تحيل على أزمات أعمق و أخطر في منظوماتنا الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية ، فمثلا عندما ظهر وباء الكوليرا لم تقتصر خطورته على عدد الحالات المصابة ، لقد جرّ ظهور هذا المرض إلى البحث في أسبابه ، الماء الملوث أو الخضروات و الفواكه الموسمية المسقية بمياه الصّرف الصّحي ، هنا بدأ الصّراع الخفي على أشدّه بين قطاعي الفلاحة و الرّي و كلّ جهة تحاول تبرئة ساحتها و ذمّتها و ترك التّهمة تلتصق بالقطاع الغريم ، الفلاحة تقول أن لا خطر في الخضروات و الفواكه و مصالح الرّي و الجزائرية للمياه يزعمون أنّ مياه السّدود و الخزانات و محطات التّحلية معالجة و مراقبة .

و عندما تثبت مصالح الدّرك الوطني وجود الآلاف من الهكتارات عبر تراب الوطن المسقية بالمياه القذرة و تلجأ إلى إتلاف وحرث عشرات الآلاف من القناطير من المحاصيل  ، ترتفع أصوات تصرّح أنّ هذه المحاصيل غير ملوثة بفيروس الكوليرا و أنّنا كنّا نستهلكها قبل الكوليرا و كانت الأمور طبيعية ، و هنا تصاب بالغثيان حينما ترى المنطق العجيب يسود مجتمعنا ، فيتملّكك الهذيان و يستبد بك الخبل ، كيف لهذه العقول ترفض الكوليرا و تعدّها من الموبقات في الوقت الذي تسمح فيه بالسرطان و تعتبره من المستحبات و كلاهما يسقى بماء واحد ؟ ، ألا يعلمون أن مياه الصّرف الصّحي تحوي المعادن الثّقيلة على غرار الرّصاص و الزّنك و الزّئبق و كلها مواد مسرطنة ؟

و حينما ندرك ما كان مخفيا و مغيبا عنّا و أصبح بسبب ظهور مرض الكوليرا واقعا يتعايش معه الجزائري ، الذي يبتاع ما يحتاجه من خضراوات و فواكه من أسواق مصادرها هي تلك الحقول المسقيّة بمياه الصّرف ، يتبادر إلى الذّهن سؤال حول ما تصرّح به وزارتي الفلاحة و التّجارة من أرقام حول ما تنتجه و ما تستورده البلاد من الخضر و الفواكه و تجد من بين تلك الأرقام ما يؤشر على نموّ قطاع الفلاحة و تحقيقه لفائض كلّ سنة ، فهل يا ترى هذه المحاصيل الملوثة على أقل تقدير بمواد تسبب السّرطان تدخل في الحسبان و تساهم في نمو قطاع الفلاحة هي الأخرى ؟

و عندما تكثر حالات السّرطان و تنتشر كالنّار في الهشيم يسود خطاب شعبوي مفاده أنّنا لم نكن من قبل كما نحن عليه الآن من ظهور غريب لأمراض عجيبة لم تكن في أسلافنا ، و تمتزج هذه الملاحظات اللّماحة بتفسيرات غيبية و دينية مشوّهة لا تدع المجال للعقل كي يفكّر كثيرا حول وجود أسباب منطقية و موضوعية و ظاهرية للسّرطان الذي يكلف خزينة الدّولة الملايير الممليرة من أدوية و تجهيزات و وسائل و مستشفيات و أبحاث و دراسات و غيرها ، و بهذا تفلت هذه المياه اللّعينة أو الملعونة لست أدري أيهما أصحّ ، و يصبح الإنسان حسب تعبير وزير الصّحة عدوانيا أمّا مياه الصّرف فمن غير المعقول أن تكون كذلك إذا لم تكن الحيوانات و العقارب في اعتقاده عدوانية .

إنّ ما يريده قاطنو إداراتنا القابعون على كراسيهم الهزازة في مكاتبهم المصنوعة من خشب الزّان تحت مكيفات منعشة هو أرقام تتحدث عن واقع جيّد لا يبعث على التّهويل و لا يثير حنق المسؤول صاحب المرتبة الأعلى و لا يعكّر مزاجه و يهدّد منصبه ، يجب أن يكون كل شيء على ما يرام ، ” تو فا بيان ” كما يقال بالروميّة ، و لا يهمّ ما يكون عليه واقع النّاس و حالهم ، طالما أنّهم يعيشون على الأوراق و بين ” لي شيفر ” في سعادة و هناء ، و هكذا تمضي حياة الجزائري منذ مولده إلى غاية وفاته ؛ في أرشيف الوزارات يعيش متنقلا بين كندا و سويسرا ، شتاؤه يقضيه في الشانزيليزيه و صيفه يمرّ سريعا على شواطئ الرّيفيرا ، بينما في الواقع خريفه بوحمرون و صيفه كوليرا .

إنّ مسؤولينا إذا ما مضوا بهذه السّلوكيات ؛ يصرّون على أن يلووا أعناق حقائق الواقع حتى تتوافق مع ما يهوونه و ما يحفظ امتيازاتهم دون اكتراث للمواطن المطحون ، غير آبهين بآلامه فإنّهم ساعتها يكونون قد خانوا أمانة الشّهداء الذين أدّوها بعدما أريقت دماؤهم الزّكية و ضحّوا بما نحياه و نحن في استقلال ، كان بمقدورهم أن يصانعوا المستعمر و يحيوا بدل أن يموتوا و يعيشوا حياة رغيدة حتى تفيض أرواحهم على الفراش عوضا عن أن تزهق على سفوح الجبال أو قمم التلال مشرّدين مطاردين، لكنّهم أرادوا لنا حياة أفضل فهانت في سبيل ذلك الهدف كلّ الصّعاب و رخصت لأجله الأنفس ، فلا أقل من أن نرضى للأجيال اللاّحقة ما ارتضاه أجدادنا لنا.

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى