أعمدة الرأي

المثقف والمدرسة وحركة التاريخ

 

أشرت في مقالة سابقة بشكل عابر إلى فكرة حركة التاريخ دون أن أغوص فيها، ففهم هذه الحركية سيحدد لنا مستقبل مجتمعاتنا وإلى أين هي سائرة، ويحدد أيضا رهان الصراع  السائد اليوم، والذي يبدو أنه صراعا أيديولوجيا، لكنه في الحقيقة صراع بين من يريد تحريك المجتمع إلى الأمام كي يتقدم ومن يجره إلى الخلف تحت غطاءات شتى، وقد عبر عنها البعض أثناء إرهاب التسعينيات بتصنيف شعبنا إلى  صنفين “هناك من يتقدم إلى الأمام، وهناك من يتراجع إلى الوراء”، وقد عرف هذا الصراع في منطقتنا أوجه مباشرة بعد بروز الأفكار الإصلاحية للأفغاني ومحمد عبده اللذين أتهما أنهما “كفار” و”متأوربان”، أي بنفس النعوت التي توجه لكل مثقف يقلق هؤلاء المحافظين ومصالحهم،  فعوضوا نعت “المتأورب” في القرن19م بنعت “التغريبي” اليوم، فمن يعلم أن محمد عبده قد توفي في1905، وليلة وفاته تصدر أحد جرائد المعارضين له بعنوان تكفره؟، فمن يعلم ما تعرض له قاسم أمين الذي دعا إلى “تحرير المرأة في ضوء الشريعة” من تكفير وإحراق لبيته، لكن ليقوم اليوم الكثير ممن لازالوا يكفرونه بنفس ما دعا إليه في 1894، وهو تدريس البنات والسماح للنساء بالعمل، فقد كفر قاسم أمين لهذه الأفكار، ونعت ب”المتأورب” وهو نفس مفهوم “التغريبي” اليوم، لكن نجحت فكرته، وأنتصرت، فأفكار محركو التاريخ الذين هم أقلية دائما ستنتصر لامحالة، فمحمد عبده “المتأورب” أو “التغريبي” في القرن 19أصبح اليوم مجددا، لكن في وقته كان “كافرا”.

وتعرض لنفس الأمر الشيخ بن باديس الذي هو تلميذ محمد عبده، وكان يلقب “أتباعه” ب”الإبليسيين”، لكن اليوم أصبح بن باديس ليس فقط مصلحا، بل ذهب البعض إلى القول إلى أنه هو وجمعيته هي التي أشعلت فتيل الثوة في 1954، طبعا هذه أكذوبة كبيرة كانت تنشر في المدرسة قبل 1988، وكنت أعتقد أنها أنتهت بعد الحريات التي جاءت بعد 1988، أين يصعب جدا الكذب المفضوح على الناس بمثل هذه الأكذوبة، فصححت المدرسة ذلك، فوضعت جمعية العلماء في مكانها الصحيح، وهي حركة إصلاحية دينية وإجتماعية فقط، وهو دور إيجابي، لايمكن نكرانه في حينه، فقد كان بن باديس ثائرا دينيا وإجتماعيا في حينه طبعا، لكن يجب أن نتحرك إلى الأمام طبقا لحركة التاريخ، لأن كما سنوضح فيما بعد، فكل مجدد يتحول إلى محافظ فيما بعد بعد إنتصار أفكاره التجديدية، لكن ساهم بن باديس وجمعية العلماء في تحريك التاريخ، وهذا ما سنوضحه فيما بعد.

لكن نسجل بأن ظاهرة  الصراخ والسب والشتم والتشويه والإفتراء الذي مورس ضد هؤلاء الإصلاحيين في الماضي، كما يمارس اليوم ضد من يواصل دفع عجلة حركة التاريخ إلى الأمام ما هو إلا أسلوب طفولي، لأن الكبار لا يصرخون ولا يشتمون ولايفترون على الناس، فنصيحتي لهؤلاء الذين سمّموا مجتمعنا، ومهّدوا، دون وعي منهم حسب ما يبدو، لجرائم الإرهابيين ضد المثقفين، أن يكفوا عن ترديد نعوتا بهدف زرع البلبلة والمغالطات، للضحك على الذين لا يمتلكون ثقافة مفاهيمية ومصطلحاتية، والتي لا تميز بين الفرنكوفوني والفرانكوفيلي وبين المسلمين والإسلاميين، وبين العربي والعروبي وبين الحداثي والتغريبي، وكلما فضحهم أحد رموه بسلاحهم الثقيل، المتمثل في سلسلة من النعوت كالفرنكوفيلية واللائكية والتغريبية والشيوعية وغيرها، والتي لا يدركها العامة، بل حتى بعض المثقفين، وألتبست عليهم، بل يفهمها البعض، للأسف الشديد، أنها كفر وخيانة.

لكن يجب ان نفتح قوس بشأن أكذوبة إشعال جمعية العلماء لفتيل الثورة، لكن كيف أشعلت الثورة  ومفجروها الحقيقيون لم يجدو ولو مجاهدا واحدا من مشعليها أي ليلة أول

نوفمبر كي يكتب لهم بيان أول نوفمبر بالعربية، أو على الأقل ترجمته من الفرنسية التي كتب بها إلى العربية، وأضطر بوضياف للحاق بمصر لترجمته، لا يمكن مواصلة هذه الأكذوبة بعد 1988، لكن بقي البعض مسجونين فيها، وينقلونها لأبنائنا في المدرسة، فبعد1988 وما صاحبها من حريات سمع الجزائريون بقادة وثوار كبار طمس تاريخهم في هذه المدرسة ، وأضطرت المدرسة بعد1988 إلى تصحيح هذه الأكذوبة، ووضعت جمعية العلماء في مكانها الصحيح كحركة إصلاحية دينية وإجتماعية فقط، ونحن نثني ونقدر على دورها هذا آنذاك، وعادت جذور الثورة لنجم شمال أفريقيا التي أنبثق عنها  حزب الشعب الجزائري ثم الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية ثم المنظمة الخاصة فجبهة وجيش التحرير الوطنيين، وأغلب مناضلي نجم شمال افريقيا وهذه المنظمات التي أنبثقت عنها هم من اليسار تأثروا بالأفكار الأوروبية والأساليب النضالية الجديدة التي أكتشفوها في أوروبا.

فبعد هذا القوس نعود إلى مشكلة منطقتنا وموقعها في الخريطة العالمية اليوم، فقد أختلف في تحديد موقعنا نحن المسلمين اليوم، فيرى البعض أننا نعيش اليوم نفس ماعاشته أوروبا عشية  نهظتها-، والمعروف بسيطرة خطاب ديني متخلف وإستغلالي للبسطاء وجهلهم المقدس، كما أننا نعيش حروبا دينية كما عرفت أوروبا حروبها الدينية، ويرى آخرون أن منطقتنا ستدخل حرب طائفية بين الشيعة والسنة كما دخلتها أوروبا بحربها بين الكاثوليك والبروتستانت، صحيح فهذا محتمل جدا لأننا لازلنا مسيطرين بخطاب ديني متخلف جدا، ومحكوم بالثقل السلبي للتاريخ، وهو ما يتطلب تجديده، فلو كان فعلا خطابنا الديني فعالا، لما أننتشر الغش والكذب والتزوير والرشاوي وعدم إتقان العمل والتحايل في كل شيء، رغم أداء99% منا  طقوسنا الدينية، فقد تحدث بن نبي عن هذه المسألة عندما طرح مشكلة كيفية تحويل المسلم إلى إنسان فعال مثل الأوروبي، وبأن مشكلته ليست تعريفه دينه، فالجميع يعرفونه، ويعرفون الحلال والحرام، بما فيها القط، فإن أعطيته قطعة لحم أكلها أمامك، لكنه إن خطفها هرب، لأنه يعرف أنها سرقها فهو حرام.

لا يمكن لنا فهم أوروبا الحديثة وما وصلته من تطور إلا بفهم الإصلاح البروتستانتي الذي حرر المسيحي من سيطرة رجال الدين ودفعته إلى الأمام ،مما جعل عالم الإجتماع الألماني يربط التطور الرأسمالي في أوروبا بهذا الإصلاح الديني، وهناك من يقول العكس وأن هذا الإصلاح مرتبط بنمو قوى الإنتاج، هذا موضوع ممكن أن نعود إليه في مقالة أخرى إن شاء الله.

لكن نعتقد أن الصراع في المستقبل عندنا وفي منطقتنا سيكون حول حركة التاريخ، وهو بين من يريد تحريكه إلى الأمام ومن يريد إيقاف عجلته، ويبدو أنه هو الصراع الأبدي منذ أزل التاريخ، لم يكن الأنبياء إلا من الدافعين لعجلة التاريخ إلى الأمام، وسنوضح ذلك بالعودة إلى التاريخ وحركته.

قد تناول الفلاسفة في القرن19 مسألة العوامل المتحكمة في حركة التاريخ والتقدم، إلا أننا نعتقد عدم إهتمام البعض منهم بقصص الأنبياء التي ركزت عليها الكتب السماوية جعلتهم لم يدركوا مسألة هامة جدا، وهي أن حركة التاريخ كانت نتيجة تفاعل دياليكتيكي بين ثلاث أطراف وعناصر متحالفة وهي السلطة المستبدة أو الفرعون وأصحاب المال والقوة الإقتصادية مثل قارون، ولن يكون لهاتين السلطتين أي نفوذ لولا إمتلاكها لآلة ايديولوجية تتخذ في كل فترة من فترات التاريخ تسمية معينة، ففي الماضي كانت المعابد وسدنتها، واليوم نجد المدرسة على رأسها، فهذه الآلة الأيديولوجية والقائمين عليها هي التي تبرر الإستبداد والإستغلال بإستغفال وإستحمار وتخدير الشعوب، فلا يمكن تحريك عجلة التاريخ والتقدم بمواجهة مباشرة مع الإستبداديين والإستغلاليين، لأن المعركة المباشرة معهم ستكون خاسرة شعبيا، لأنه لن يقف عدد كبير من الناس مع قوى التغيير الإيجابي بسبب قوة الآلة الأيديولوجية التي تدعم الإستبداد والإستغلال والمتحكمة في عقول الكثير من العامة بواسطة سدنة المعبد في الماضي وقوى أيديولوجية تدافع عن النظام الإجتماعي السائد، ويمكن تشبيههم ب”حراس المعبد” أو “السدنة الجدد” بالنسبة لحاضرنا، ولهذا فالمعركة من أجل دفع حركة التاريخ إلى الأمام عادة ما يكون على صعيد أيديولوجي وثقافي وفكري وعلمي، وإذا وقع تغييرا في ذلك أنهار كل البناء القديم ليحل محله البناء الجديد الذي يكون جاهزا أيضا بواسطة هذا العمل الفكري العميق.

إن حركة التاريخ إلى الأمام هي نتيجة معركة يقودها المثقفون التنويريون ضد الإستبداد والإستغلال وأيديولجييهما، ولهذا فالمثف التنويري يصطدم مع السلطة وفي نفس الوقت مع المجتمع الذي خدرته بشكل غير مباشر الأدوات الإيديولوجية للسلطة والقائمين عليها الذين نسميهم ب”السدنة الجدد” الذين يتملقون للسلطة أحيانا، ويخدرون المجتمع أحيانا أخرى بدغدغة عواطفه تحت غطاءات شتى، فيتحكم هؤلاء في عقول الكثير كما كان يتحكم فيها سدنة المعابد في الماضي، ويوجهونها ضد الأنبياء والرسل، كما يوجهونها السدنة الجدد ضد المثقفين الذين يفضحون الإستبداد وإيديولوجييهم، وذلك بتشويههم وإطلاق الأكاذيب عليهم وتحريف أقوالهم على طريقة “ويل للمصلين”، وإتباع أي هفوة لهم وتضخيمها، وهدفهم من ذلك كله هو الحد من دورهم في تفكيك وفضح الطروحات المخدرة والأفكار المميتة التي يروجها هؤلاء السدنة سواء اليوم أو في الماضي-حسب تعبير بن نبي- الذي للأسف حتى هو تعرض للتشويه، ولم يعودوا حتى إلى ماكتبه بن نبي فعلا، كما يفعل الكثير اليوم للأسف الذين يتلقفون أكاذيب وتحريف لمقولات البعض دون حتى العودة إلى ماكتبه هؤلاء أصلا ليتبينوا الحقيقة، كما يوجد مرضى النفوس الذين يسايرون الكذب والبهتان، ويصفقون له حتى ولوعرفوا أنه ليس صحيحا مايروج له، ويحركهم في ذلك للأسف التعصب القبلي والأيديولوجي والمشاعر البدائية كما كان يفعل بعض اليهود الذين رفضوا الإيمان بسيدنا محمد )ص( إلا لأنه ليس منهم، وللمفارقة أن الكثير من هؤلاء يلبسون عباءة الدين دون الإلتزام بأخلاقه التي ترفض إطلاق الأكاذيب والأراجيف على الناس، فهدفهم تشويه كل من يقترب من المعبد الذي يحرسونه، ويفرضون به نفوذا دينيا وثقافيا على المجتمع، كما يستفيدون منه إقتصاديا وسياسا بالتواطؤ الواعي وغير الواعي مع الإستبداديين والإستغلاليين.

إن أول ما يواجهه الرسل والأنبياء هم رجال الدين السائدين وسدنة المعابد والمعتقدات التي يروجونها ، ويمتلك دائما هؤلاء السدنة تهما جاهزة ضد الأنبياء والرسل كما هي جاهزة اليوم ضد المثقفين التنويريين النقديين كالتكفير والتخوين وغيرها من التهم التي تعد أفتك سلاح يستخدم ضد المثقفين التنويريين، وللأسف تنطلي هذه التهم عن الكثير، لأنهم أخضعوا لسيطرة أيديولوجية من قبل على يد المدرسة وغيرها من الأدوات الأيديولوجية التي عادة ما يحولها المستبد إلى أداة لترويج أيديولوجية الخضوع وغرس عوائق معرفية في ذهن الإنسان عندما كان طفلا، ولهذا تجدهم يرفضون كل فكرة جديدة أو أي محاولة لإعادة النظر في الأفكار والطروحات السائدة بالإستناد على البحث العلمي، ويغيب عن الكثير أن من أهداف البحث العلمي ليس فقط البحث عن الحقيقة، بل أيضا النقد وإعادة النظر المستمر في النظريات والطروحات السائدة في كل المجالات، ومنها بعض الأحداث والقضايا التاريخية، فكم مثلا من قضية تاريخية أعيد النظر فيها بعد ما أعتقد في الماضي أنها حقائق؟، وكم يعاني الباحث المتابع يوميا للمستجدات من نظريات وطروحات عند مناقشته أو طرحها مع المتوقف والمتخلف عن المتابعة لها منذ مدة، وبقي يردد نظريات وأفكارا أكل عليها الدهر وشرب، كما يكرر معلومات أعادت البحوث الجديدة النظر في صحتها، ويعود رفض الكثير للطروحات والأفكار الجديدة إلى الآلة الأيديولوجية للإستبداد التي عطلت عقلهم وسلامة تفكيرهم، ومنعتهم من إمتلاك روحا نقدية تسمح لهم بالتمييز، مما يتطلب تحريرعقولهم ودفعهم على التشكيك في كل ما يتلقونه.

 

فالأيديولوجيون أو السدنة الجدد الذين يقفون في وجه المثقف التنويري والنقدي يتصرفون مثل كل سدنة المعابد في الماضي الذين واجهوا الأنبياء والرسل، ويشبه حرصهم على بعض الأوضاع والأفكار السائدة نفس حرص قريش وتصرفهم مع سيدنا محمد )ص( بردهم عليه “بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا”، أي معناه إبقاء الوضع على ماعليه وتقديسه، وإن تتبعنا هذا المنطق فمعناه الجمود والتخلف وتوقف حركة التاريخ نحو التقدم، فمن أبرز مهام المثقف النقدي التنويري هو خلخلة الأفكار المميتة السائدة في المجتمع، والتي تعرقل حركة التاريخ وتمد في عمر الإستبداد والإستغلال.

 

فقد تعرض الكثير من المثقفين الجزائريين للتصفية الجسدية في تسعينيات القرن الماضي بسبب تكفير هؤلاء السدنة لهم، ولازال الكثير من مثقفينا يعانون اليوم من بعض هؤلاء الأيديولوجيين السدنة الذين يتهمونهم أنهم ضد الإسلام إلا لأنهم يحذرون من إعادة إنتاج الإرهاب بترويج بعض الأفكار المتطرفة المنتجة له، ويؤكد هؤلاء المثقفين بأن هذه الأفكار تستخدم من أعدائنا التقليديين في شمال المتوسط كفرنسا وكذلك الصهيونية وأمريكا لتفجير أوطاننا وزرع الفوضى لإعادة إستعمارها من جديد، بعد ما نظر هنتغتون منذ تسعينيات القرن الماضي لصدام الحضارات وأسس ل” الحرب الإستباقية” كأسلوب إعادة السيطرة على بلداننا، وما أنفك يحذر هؤلاء المثقفين المتهمين من هؤلاء السدنة الجدد بأن صعود الفاشية في شمال المتوسط وصعود هؤلاء المتطرفين الدينيين في أوطاننا معناه صدام حتمي لا محالة بين الضفتين، وستتخذ ذريعة لإستعمارنا من جديد بأشكال أخرى.
ويروج هؤلاء السدنة الجدد عن هؤلاء المثقفين بأنهم بتحذيرهم هذا فإنهم يدعون في الحقيقة لضرب الإسلام دون أن يميز هؤلاء المروجين لهذه الأراجيف بين الإسلام كدين سماوي جاء لخير البشر ومختلف التأويلات البشرية له، فنجد منها تأويلات تنويرية تخدم البشرية وتزرع الحرية والعدل والمحبة والسلام، كما نجد أيضا  تأويلات أخرى متطرفة ومتخلفة تزرع الحقد والكراهية وتدعم الإستبداد والإستغلال، فمعركتنا اليوم مع هؤلاء هي بداخل إسلامنا، وليس بخارجه  كما يروج هؤلاء.

 

البروفسور رابح لونيسي

متعلقات

زر الذهاب إلى الأعلى