أعمدة الرأي

عن سلفية لغوية تشبه “الزومبي” .

. بدا النقاش حول مسألة اللغة العربيّة آخذٌ في توسّل أكثر الشعاب تعقيداً و اشتباكاً ، بيّد أن الطارح “الحكيم ” للنقاش بعيداً عن صهر المشكلة في عصب اللغة الفصحى في حدّ ذاتها ، بهذا التوصيف  ؛ لا يتقاطع شكلاً مع ما يُعرف بـ “التبئير ” في النقد الأدبي الحديث ، ذاك أن الإقبال على تلقي العلوم خارج مضامينها العميقة بدون لغتها الأصيلة ، باعثاً حياً و شائكاً على النظر بأكثر من عين إلى جوهر لغتنا في مدى قصورها عن التدارك العصري من عدمه ، و إن كان هنالك شقاً ضرورياً في الموضوعة هذه ، فإنّه حتماً يشترط تعليقاً مؤزّراً يعقد تدهور أي لغة حيّة على رجوع الناطقين بها القهقرى على السلم الحضاري الحديث .

فبين الشكل التقليدي الصرف للمفردة العربيّة ، و استعصائها على التحيين بموجب مقتضيات الجدّة و التقانة ، يمنحُ الجدل فضيلة الترقّي عن “تبئير” المشكلة في توطين اللهجة العاميّة ضمن البرنامج التعليمي في سنيّ عمر الطفل الأولى ، و إذّ إنّ أي اصطفاف خارج هذا السياق ، قد يصيب الواقع بقلم محايث ، غير أنّه يصبغ الإشكاليات الكبرى بنوع من التسطيح ، ناهيك عن تأجيلها خلف تخوم الوارد بالكثير من العنت و التواري .
هل هذا كافٍ لتلافي القادم الثقافي داخل اللغة ، أم أنه مجرد تقيّة لغويّة سرعان ما تذوي سريعاً إثر التورط بمأزق المحاينة العصريّة ؟

لا شك في أن النظر إلى المصطلح الغربي في صورته المترجمة باللغة العربيّة ، قد يتصادى بالكثير من العوائق و المشكلات التي قد تكبح أي وثبة أخرى لتجديده أو طرح بدائل أخرى ، لأنّ اللغة من حيث أنها تجد نفسها أحياناً في أزمة معابر ، عندما تعجز عن سحب المعنى كاملاً من عقل الكاتب ، سوف تصطدم بمشكلة تغرّب ، حينما تطرأ على تركيبتها الأصليّة تحاوير و جراحات دقيقة و شاملة ، و بذلك يحدث أن يضطر المترجم إلى استحداث تغيّرات تصل من حيث القيمة التحريفيّة شكلاً إلى عمليات “تغيير الجنس”  مثالاً ، و قد بعثر الإيطاليون هذا التصور و أنهوا حوله الجدل ، عندما قالوا في أحد أمثالهم الشهيرة : ” المترجم خائن” .
في الغالب لا يجد الذي لا يرى بدٌ أو غضاضة من تدوير الحروف لأجل المعنى ، أيّ مندوحة متعثرة في تقويم اللفظ و خياطته من جديد ، و قد أجاز مجمع اللغة العربيّة تحديث المفكر المصري الراحل لجملة مفادها، تحويل القيم الإنسانيّة من مرجعيّتها النهائيّة إلى قيمة مطاطة و سلع ماديّة نسبيّة المصير ، إلى كلمة واحدة سمّاها ” الحوسلة” ، ورغم أن الامتعاض الذي صاحب هذا ، كان مشدّه الأكبر ، هو غرابة التركيب الحرفي عن الأذن العربيّة ، إلا أنه انتهى إلى قِصاص علمي مستحق  .
هو ذاتهُ النهج الذي حوّل اسم “التلفاز” إلى “تلفزيون” بحجة أن اختتام الكلمة بالواو و النون ، يجعلها أكثر اقتراباً من الموروث الصوتي للغة العربيّة ، في حين رمق هذا اللفيف العروبي المغرب العربي الذي يستخدم مصطلح ” تلفاز” بالكثير من التغليط و اللحن ، الأمر الذي دعا اللغوي التونسي عبد الواحد محروق إلى كتابة مقال يدافع فيه عن الفروق اللغويّة بين المشرق و المغرب ، نشره في مجلة العربي الكويتيّة في أواسط عقد الثمانينات .

إنّ الوعي بضرورة العناية باللغة و العمل على تجديدها ، أمر بالغ الضرورة ، و حتى نتفادى تأخراً يكلفنا أشباراً حضاريّة ، يجب أن ننظر بدقة إلى الصيغة العربيّة فضلاً على اللفظ ، بعيداً عن أي بعث تقليدي يرى أن “اللغة” في حد ذاتها تمثل أيقونة مكتفيّة بحدودها الأوليّة ، ذلك أن هذه السلفيّة اللغويّة تعرضنا دائماً إلى التعاطي مع عالم الحركة و التغيّر و الجدة بعقليّة جوراسيّة ، لا تصلح لأن تكون منصة لأي نقاش علمي ، يستبعد الوعي بحقيقة اللفظ ، حتى يتم تأهيلها إلى مصطلح يوفر الكثير من الوقت ، و يُقصّي أي نرجسيّة لغويّة تصلمُ الآخر بالرطانة .
و الحال أن الاضطراب الذي يغشى العقل التقليدي ، يمنع أي تسويق لهذه الجدّة ، لا سيما أن لكل علم قاموسه اللغوي ، و فكرة المثقف الذي يمسح جميع العلوم و لو بأفكار سريعة ، باتت من الماضي و عيناً صادقة الرؤية للتخلف و لواحقه .
مما يؤثر عن الجامعات الأميركيّة أنها تغذّي مفهوم التخصص بمثل أكاديمي بليغ يقول : ” كلما زاد المعرفة الشاملة بالاتساع ، ازداد التخصص ضيقاً أكثر ” .
ختاماً ، ربما يبدو النقاش حول ” أهليّة” القائمين على اللغة العربيّة ، تستدعي الكثير من الشجون إلى التمثل في الحاضر ، و قد حدث ذلك حقاً عندما عكف مجمع اللغة العربيّة ثلاثين حولاً ، حتى يصدر لنا مخرجه البديع  و الذي لم يكن سوى تهجئة الـ ” p ” بـ ” باء بثلاث نقاط من الأسفل” ، و نُطق الـ ” v” بـ ” فاء بثلاث نقاط إلى أعلى” .
يصبح الحقل التوليدي لأفكار و ألفاظ و معاصرة لغويّة بعيداً للغاية ، ما بقي العقل التقليدي يُخضع العاميّة للفصحى و الفصحى للعاميّة ، بينما هما خليجين متفرقين لا أرخبيل بينهما ، إلا ما كان لماماً أو عابراً فحسب .

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى