أعمدة الرأي

أهي أزمة تصنيف كلامي أم سياق متغيرات كبرى ؟ !

انتفضت الساحة الدينية والدعوية لمنشور كتبه  شيخ إحدى طوائف السلفية في الجزائر؛ لم يكترث لعواقب حكمه الذي سلخ معظم أمة محمد صلى الله عليه وسلم من إيهاب جمهور المسلمين الذين يشملهم وصف أهل السنة والجماعة .

وكعادة كثير من رموز التيار الموصوف بـالسلفي في العالم الإسلامي؛ في إضفاء هالة من القداسة على أحكامهم وآرائهم التي يرونها وحدها معبرّة عن حقيقة الإسلام الذي بلّغه محمد رسول الله عليه وسلم للعالمين، وما يتجرجر من هذا المعتقد المستحكم بعقولهم ، تنهال الجلاميد الصمّ من التوصيفات والأحكام والهجوم الكاسح الاستباقي لكل ردة فعل متوقعة؛ كي يزدادوا لدى اتباعهم مهابة إلى مهابة، وتعظيما، واستشعار حال الفئة الغريبة التي هي على الحق؛ لا يضرها من خالفها، وكذا بث الرعب المعنوي في قلوب العوام الذين استولوا على عقولهم بمصطلحات (أهل السنة والجماعة) و(الفرقة الناجية) فضلا عن عبارتي (الدليل من الكتاب والسنة) .

نحب أن نقارب الموضوع من خلال جملة من الملاحظات  :

(1) إن (أهل السنة ) مفهوم عقائدي كلامي، والإخوان –مثلا لا انحيازا ولا انتصارا ولا انتماء- جماعة إصلاحية تغييرية برز في منهجها وأدائها البعد السياسي؛ فعلى أي أساس منطقي عقلي بنى السيد فركوس مقارنته؟!!
إنها إحدى تجليات انزلاقات تيار ألغى العقل باسم أئمة العقل المتوازن من سلف الأمة مذ عصر الصحابة ومدرسة الرأي العمرية (نسبة لأمير المؤمنين عمر) والمسعودية (نسبة للصحابي الجليل ابن مسعود)  إلى متفحص العقل والمنطق بأدلة العقل وقوانينيه المستنبطة من الكتاب والسنة ، ابن تيمية صاحب درء تعارض العقل مع النقل

(2) لو قارنا الانجذاب في الجزائر نحو الاتجاه السلفي في نسخته السعودية والحجازية؛ لوجدنا متغيرا حاسما في مقدار الانجذاب: لقد أقام علماء ومشايخ جزائريون في الحجاز منذ بدايات القرن العشرين، و شارك بعضهم في تأسيس ومسار جمعية العلماء الجزائريين (الشيخ الطيب العقبي رحمه الله أبرز مثال)، لكنهم احتفظوا بالشخصية الاعتقادية والفقهية والروحية لبلاد المغرب ، فلم يأخذوا في عمومهم من تلك السلفية إلا ما رأوه مخلّصا لبعض المعتقدات مما لا يليق بعقيدة التوحيد .
أما النسخة الثانية فازدهرت بازدهار النفط الذي أضفى على السلفية السعودية أبهة المال والسلطان، فانجذب إليها منّا من وافق لديه الميل الحال المستجد هناك. فلنتأمل ونستخلص!

(3) ممّا يميز السياق الذي يأتي فيه هذا التصريح المريب ، بالنظر إلى المحضن الأم للسلفية الجزائرية، أي الوهابية السعودية، أنها تشهد مرحلة زلزال خطير في معقلها نتيجة للضغوط الدولية التي ظفرت بشاب طموح يرنوللتربع على عرش أغنى دولة عربية، وأخذ يتجاوب مع تطلعات القوى المالية والصناعية العالمية في إحداث عملية تغيير جذرية في أيديولوجية المملكة التي تأسست عليها وكان لها فضل الاستمرار والهيمنة ما يقرب من قرن من الزمان.

فقد آن الأوان –إذن – كي يُحدّث المجتمع السعودي وفق الإيقاع العولمي الذي ضرب مثلا له بعض إمارات الخليج الصغرى ، وها هي تحث الأخت الكبرى على الرقص على الإيقاع.

(4) وبطبيعة الحال فإن أحد الأسئلة الكبرى والجوهرية هنا : ما مصير الرصيد التاريخي الضخم الذي مكّن للدولة السعودية في الداخل وفي ربوع العالم الإسلامي وفي العالم أينما وجد المسلمون؟ هل من الحكمة التخلي عنه وتجاوزه ببساطة ويسر؟ هل من مصلحة ا لمملكة التنكر للجيوش الجرارة التي جيشتها تحت عنوان السلفية وأهل السنة والجماعة؟

أعتقد أن من السذاجة أن تطوى صفحة هذا الكتاب الثري الضخم دفعة واحدة، ويدخل المتحف الفكري والتاريخي لتاريخ الدعوات والأفكار والمذاهب والجماعات والدول . بل من المحتمل أن يُعمل على خطوط متعددة تختلف بحسب الهدف والمصلحة الآنيةوالبعيدة، أقتصر منها على خطين هما : خط الداخل وهذا أمر ميسور في المتناول نظرا لطبيعة العلاقة بين الهيئة الدينية والسياسية في المملكة؛ فقد يُسار في مسار هادئ تحولي تستخلف فيها القيادة الدينية الحالية المتقدمة في السن رويدا رويدا بقيادة دينية تمسك بالشعار الوهابي السلفي، وتنفذ تغييرات جوهرية في المقولات والأحكام و الأراء والفتاوى بما يطفئ جذوة التشدد الذي طبع النسخة الأصلية منذ نشأتها ، وكادت أن تكلف المملكة استقرارها ووجودها . والحق أنه قد يكون في هذا المسار بعض الخير والنفع لها وللأمة .

المسار الخارجي يتنوع العمل عليه بحسب الحاجة والمصلحة من جهة الموقع الجغرافي والرصيد السياسي والجغرافي الذي يصب في رصيد مكانة المملكة من جهة والقوى الكبرى المتحالفة معها من جهة ثانية . ولهذا قد يكون من المفيد كثيرا استبقاء رصيد احتياطي للنسخة السلفية الوهابية في مناطق معينة يُلجأ إليها في ظروف معينة لا يصلح التعامل معها من الناحية الروحية والاعتقادية إلا بتلك النسخة الأصلية . ونحن نعتقد أن منطقة المغرب العربي والجزائر على الخصوص قد تكون من هذا القبيل ؛ نظرا لموقعها الاستراتيجي من أوربا وإفريقيا، وللخامة البشرية التي تتوفر عليها، والتي من خصائص بعض فيئاتها فيض العواطف الدينية التي تستثار بظواهر النصوص من آيات كريمة وأحاديث نبوية شريفة، والاندفاع والانسياق وراء الملوحين بها انسياق تسليم وانقياد عجيبين، مع ما يصحب ذلك من مفاهيم اقتصادية وسياسية واجتماعية ، تمكّن للمنتج المعولم انسياب التسويق والاستغناء به عن أي طموح في الإبداع والابتكار الحضاري المستقل .

هذا فضلا عن الدور المتوقع أداؤه في أحوال التطلع للانعتاق من الارتهان للقوى الاستكبارية، تحت مظلة اسمع وأطع ولو جلد ظهرك وأخذ مالك !!! وحفظ التوازن في المنطقة بين الاتجاهات الإسلامية بشقيها السني والشيعي الذي أرسى له وجودا يدأب حثيثا على تعزيزه، ولا شك أن مثل تصريحات وأراء السلفيين المثيرة توفر غطاء مناسبا لذاك التيار كي يعمل في هدوء وطمأنينة . لا ينبغي أن ننسى فكرة (الجغرافيا الدعوية ) التي توطنت في العالم الإسلامي نتيجة البلاء المبين للسلفية السعودية والتشيع الإيراني .

ومما يعزز الميل لهذه الفرضية تزامن كلمة فركوس مع الاشتباكات اللفظية في البيت السلفي، تحت المظلة الكبرى المرجعية المدعوة بالمدخلية .فكل يدعى أحقيته فيالقيادة والهيمنة.

(5) بتفحص تصريح فركوس على ضوء الفوائد والمضار  المستجلبة للبلاد والعباد منه: ما المشكلات التي يعدُ بالمساهمة في حلها؟ بما في ذلك المشكلة الكلامية في صورة عقيدة التوحيد؟ فليس هناك من عاقل مطلع على علم الكلام والفرق الكلامية الإسلامية يجهل الخلافات الواسعة التي كانت سببا لنشأة هذا العلم ، والأسباب السياسية والفكرية والثقافية التي عاش المسلمون في ظلها قرونا عديدة، وكانت في جلها أحد الأسباب التي انحرفت بمسار الحضارة الإسلامية عن دورها الدعوي التبليغي، ورسالة الشهادة على الناس .

ولهذا فليس هناك من عاقل يعدل بتلك المسائل الخلافية عن الدرس والإثارة في الجامعات والمؤسسات البحثية الدينية والعلمية المنخصصة بين العلماء المتخصصين؛ إلى النزول بها لمستوى خطاب العموم فهو بال على الدين والمجتمع ، وفتنة للناس عما ينصلحون به في دينهم ودنياهم، فضلا عن جرّ ركام التاريخ

إلى ساحات الواقع الذي لا صلة له بذاك التاريخ ، فتتحول إلى ساحات وغى تنهك الطاقات ، وتهدر الأخلاق، والسمت الإيماني، فضلا عن الانشغال عن التحديات الحقيقة التي تندرج تحت المصطلح الشرعي(فقه الواقع ونوازله) .

(6) أما الثورة السلفية الكبرى التي تخوضها تيارتها المختلفة للفوز بالمرجعية السنية الحقّ ، فتكتنفها جملة من المغالطات أقواها أنها هي الحركة الدعوية الأصيلة على خطّ تاريخ الإسلام في عصوره الزاهرة ، و في عهود سلفه الصالح الكريم ، بدءا من عصر النبوة والصحابة رضون الله عليهم  .

والحقيقة أن الحركة السلفية بالصورة التي نشهد وجودها اليوم في العالم الإسلامي هي إحدى المحاولات الإحيائية في مسار التجديد والإحياء الإسلامي عبر التاريخ ، وأحيل القارئ المتبصر إلى كتاب الإمام الجليل محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى (تاريخ المذاهب الإسلامية ) الذي عرض فيه موقع الأشاعرة والماتريدية من خريطة المتكلمين في العقائد، وتمثيلهم في فترة من الزمان لأهل السنة والجامعة . كما أحيل القارئ الحصيف أيضا إلى القراءة المستبصرة في السفر نفسه في فصل (السلفيون )[ص 177 ص 196 ] وهو أنهم فئة من الحنابلة ظهروا في القرن الرابع الهجري ،ثم تجدد ظهورهم في القرن السابع الهجري على يد الإمام ابن تيمية رحمه الله .وعلت مآذنهم في شبه الجزيرة العربية بدعوة ابن عبد الوهاب . ويجدالقارئ الحصيف عرضا مؤنقا ، ونقاشا موثقا رفيعا من الإمام الجليل أبي زهرة رحمه الله تعالى . ولعل مما يخلص إليه المتأمل الحصيف أن الدوي السلفي الذي انداح صداه في ربوع العالم الإسلامي بغية الاستحواذ على الوجود الإسلامي قاطبة، واحتكار السنة والجنة والرضوان، لا يعدو أن يكون سوى فصلا من فصول الخصام الجدلي الذي نشأ في مراحل زمنية تاريخية لها أسبابها ودواعيها ، التي لن تمنح أحدا مشروعية الاستحواذ على التفكير الإسلامي والمعتقد الإسلامي ولا التمذهب الإسلامي.

(7) بقي لنا أننستشكل أمورا مرتبطة بطبيعة المرحلة التي تمرّ بها البلاد ، ومستقبلها السياسي. أليس من المناسب تحريك الساحة الإسلامية الوطنية برجّة كبيرة تفرز مجموعة من النواتج المفيدة لإدارة الأمور وفق المطلوب؟ الأمر ممكن، ولا غرابة فيه ، وقد يكون من الحنكة السياسية افتعاله: فالعامل الديني من أقوى العوامل الموجهة للمجتمع الجزائري، فإذ يُبعث مُثير بهذه القوة سوف يستنفر القوى والجماعات والهيئات والأحزاب والشخصيات ذات المرجعية الدينية لمحاولات الفهم والتفاهم والاستنكار والردود ، وأخيرا التوجه للحكم القانوني كي يضبط ويفصل ويصلح ويهدّئ، ويتودد، ويشعر الجميع بالحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه، حتى في قضية كلامية عقائدية اهتزت بها منابر الخطابة وحلقات العلم ومجالس الملوك والأمراء والمناظرات منذ قرون خلت أيام الحضارة الإسلامية .

وفي السياق ذاته ما دلالة الربط بين الأشاعرة والإخوان في الكلمة الفركوسية ؟ الأمر هيّن بيّن

في تقديري: أما الإخوان فالأمر لا يحتاج لبيان، لكن دلالة الأشاعرة متعلقة بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي أخذت تمد جذورها في المجتمع الجزائري، ويزدهر نشاطاها الإصلاحي، وتقوى مؤسساتها الثقافية والإعلامية والدعوية والاقتصادية، وامتد للقضايا الكبرى في العالم الإسلامي مثل غزة وميانيمار.

وسجلت مواقفها الواضحة في مسائل جوهرية هي : المنظومة التربوية و المخطط الغبريطي – و الاستماته في مواجهة التيار التغريبي الذي يجهد في فرض كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني –

و مواقفها المساندة للحركة الاحتجاجية خاصة من فئة الأطباء والأساتذة .

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى