أعمدة الرأي

الصحافة ونصف خطوة

   ” لو التقينا نفسنا في الماضي  لاستغربنا ضعفها واستغربت هي قوتنا اليوم ”  نعم نحن نتغير ” : فاطمة حمدي 

هي نصف خطوة وليست خطوة كاملة ، هي قرار اتخذ قبل سنوات في ذلك المبنى المشيد في وسط البلد ، أن تمنح لنفسك قسطا من الراحة ، أي أن تكون حرا في آداء المهنة ، الصحافة بعد تجربة  السنوات ، تحتاج فقط إلى قيود الحدود التي تمنحك ضبط النفس وتدق على رأس الضمير ساعة على ساعة ، وتكبح العواطف ، وتستجدي رحمة الإنسانية ، هكذا هي الصحافة في بداية التسعينات كما يراها من مروا على صحف : ( المساء والشعب والسلام ) ، وكم هم كثر ، توزعوا وقتها على جرائد جديدة خاصة ، تفوح برائحة الحبر والدم أيضا ، فتلك السنوات العصيبة لا يمكن أن يعاد شريطها في لحظة ، أو التعبير عنها بكلمات نرصها رصا في مساحة بيضاء ، لكنها تحملك مرة على مرة نحو الوراء ليس لاستجداء وجع تلك الفترة ولكن للاعتراف بأن الأشياء الجميلة تولد في رحم المحن ، وأن نجاح افتكاك صك الغفران من تحت بساط صاحبة الجلالة الصحافة في القطاع العمومي ليس بالهين والبحث عن فضاء أوسع ومساحة أرحب ليس بالسهل بمكان كما يمارس اليوم في العلن في الفضاء الأزرق ، وقتها كان كل شيء بطعم ونكهة و” بنة ” ومذاق ، وقتها كانت المنافسة لها معنى ، والفوز بتخليد عنوان لموضوع في الصفحة الأولى كان ” شرف عظيم ” ، كان التنافس بين الزملاء يتم بتطرف للأحسن ، وفي المساء كان الجميع يأخذ  طريقه نحو مسكنه ( منزلا كان أو مقهى للقاء أصدقاء أو حي جامعي أو فندق محمي ) ، وبوسيلة من وسائل النقل العادية .

اليوم تغير كل شيء ، السرعة والتسرع اختلطا على زملاء المهنة ، الرأي والرأي الآخر صار حق أريد به باطل ، قول نصف الحقيقة والبقية تنتظر الاذن ، البحث عن الشهرة في بداية الطريق ( رغم أنها حلم وطموح مشروع ) ، في جو مشحون بالضغط ، وعدم امتلاك أدوات تلك الشهرة ، قد توقع بأصحابها في القاع ، الواجهة صعبة والوصول إلى أعلى الهرم ليس معناه البقاء فيه ، لأن ذلك لا يتأتى إلا بالاجتهاد وباستثمار الوقت فيما يرفع من الوعي وبلغة بسيطة تدخل بيوت كل جزائري ، وتتحدث عن عمق اهتماماتهم وهمومهم ، إن أراد المهني أن ينعم بسعادة رحلته نحو تلك القمة ، الممتدة عبر محطات أهمها تعلم الوصول إلى خبر ، وإمكانية تحريره ثم نسجه ونشره ، كانت الصحافة هي من تنادي على أصحابها ، وكأنها ” تختارهم وترقيهم نصف خطوة ثم نصف خطوة ثم تعلمهم لتأتي نصف خطوة تدريبهم ثم تصقلهم حتى تمر الأعوام ولكنهم في الأخير يقولون لم نتعلم بعد ” على حسب قول الزميل الإعلامي مروان الوناس الذي علمني لما كان رئيس التحرير المركزي في قناة الشروق في بداياتها – 2012 –  أنه ” لا يمكن أن نخدع أنفسنا بانجاز تقرير صحفي وريبورتاج أو حوار ، لأننا في النهاية لم نقدم شيء بعد في حياتنا المهنية ، حيث عزا ذلك إلى ” شراهة قطاع السمعي البصري الذي يجوع في كل وقت ويأكل بسرعة ولا يرحمك في لحظات التعب والمحنة والإجهاد والمرض ، كما أن انجاز تقرير من دقيقة وثلاثين ثانية يحتاج جهد وطاقة أربعة أو خمسة أشخاص فكم من دقيقة يمكننا أن ننجزها في الأربع وعشرين ساعة ؟ ”  .

اليوم صارت الخطوة سريعة جدا ومن الصعب تدارك الخطأ أو أن نعود أدراجنا بعد الخطأ أو فوات محطة من المحطات المنتظرة، فالعودة للوراء يعني ” الانتحار المهني ” ، والبقاء في المكان الخطأ يعني إهدار الوقت والطاقة وتدنيس الكرامة .. إذا ماذا تفضلون نصف الخطوة وجمعها على مر الأعوام أم عدم الاكتراث لكل ما سبق والتلذذ بوهج اللحظة وتحقيق نجومية ظرفية ؟ .

متعلقات

زر الذهاب إلى الأعلى