أعمدة الرأي

المسألة الأمازيغية في الجزائر “الجذور والمآلات”

تعد مسألة الهوية من المسائل الخطيرة التي تعيشها الجزائر، فإن لم تحل نهائيا وبشكل عادل، فإنه بإمكانها أن تضرب وحدتها وتماسكها، خاصة في ظل إستغلال قوى دولية كبرى هذه المشاكل لتفكيك الدول بضرب مقومات هويتها بعضها ببعض، ونعتقد أن حلها يجب أن ينطلق من معالجة أسباب الأزمة وتصحيحها، ولايمكن لنا فهم أسبابها إلا بتصنيفنا الصحيح للهويات، والتي هي ثلاث أصناف، ومنها الهوية المركبة والمتحركة بفعل التثاقف اليومي بالإحتكاك بالثقافات الأخرى، كما يقول الروائي اللبناني أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة”، فالجزائر بحكم موقعها الجغرافي كملتقى حضارات ينطبق عليها ذلك، وهناك أيضا نوعين من الهوية، ومنها هوية واقعية نعيشها على أرض الواقع، ويقابلها هوية مصطنعة موجودة في أذهان بعض المؤدلجين، لكنها ليس لها صلة بالواقع، وبوصول هؤلاء إلى السلطة يخلقون مشكلة الهوية بكل إنعكاساتها الكارثية عندما يسعون للقضاء على الهوية الحقيقية المعاشة يوميا وإستبدالها بالهوية المصطنعة بواسطة التعليم ووسائل الإعلام والثقافة، فيكون رد فعل المجتمع على مستويين، فالبعض من أفراده تطمس شخصيتهم الحقيقية ويحتقرونها، فيتنصلون منها تدريجيا، والبعض الآخر يكون لهم رد فعل قوي، فيكونوا أشد تمسكا بهويتهم  إلى درجة التحنيط، وهذا ما وقع لمسألة الهوية في الجزائر بعد 1962، ولايمكن لنا فهمها إلا في هذا الإطار، فهوية الجزائر المعاشة يوميا هي هوية ذات ثلاث أبعاد أساسية، وهي أمازيغية عربية مسلمة، وقد تعايشت هذه الأبعاد الثلاث في كل جزائري طيلة قرون، أي منذ إعتناق أجدادنا الأمازيغ الإسلام، وتبنيهم للعربية بصفتها لغة الإسلام، فكانوا يعتزون بالعربية مثلما يعتزون أيضا بالأمازيغية التي كان يستعملها الكثير منهم في حياتهم اليومية، مثلهما في ذلك مثل الإسلام الذي يعد إسمنت هذه الهوية، لكن الذين أخذوا السلطة في 1962 بقيادة بن بلة أرادوا فرض هوية غير واقعية نسبيا متأثرين في ذلك بأيديولوجيات مشرقية التي بدورها متأثرة باليعقوبية الفرنسية والأيديولوجيات الفاشية التي عرفتها أوروبا ثلاثينيات القرن20، والتي تتبنى الأحادية في كل شيء ومنها الثقافة واللغة، فأكتفت السلطة بثنائية العروبة والإسلام متجاهلين الأمازيغية، وللإشارة فيجب ان نفرق بين العروبة والعربية، فالأولى هي أيديولوجية، أما العربية فهي ثقافة ولغة، فعملت هذه السلطة إلى طمس الثقافة الأمازيغية، مما أدى إلى ردود فعل طبيعية بعد سنوات، وقد دفع البعد الأمازيغي الثمن الباهظ لدرجة أنه لا يذكر مجرد الذكر، في الوقت الذي يذكر فيه أبعادا أخرى مثل الأفريقية، وكأن البعد التاريخي والثقافي الأمازيغي، لابد من محوه من ذاكرة الشعب الجزائري.

   فمن تأثيرات هذه السياسة الإقصائية هو زرع الشقاق والشرخ في المجتمع الجزائري على أساس ثقافي وهوياتي، وتحولت الهوية الجزائرية إلى محل صراع حاد بين مختلف أبعادها، بدل أن تكون محل إنسجام وتكامل كما كانت من قبل، وكرد فعل على التجاهل العلمي والثقافي للبعد الأمازيغي والسعي لطمسه ظهرت معارضة سياسية قوية بطابع ثقافي متمثلة في الحركة الأمازيغية التي أصبحت تتطور وتتحرك حسب سياسات الدولة تجاه البعد الأمازيغي.

  يقول البعض أن مسألة الهوية في الجزائر تعود إلى ما يسمى ب”الأزمة البربرية” في 1949 داخل الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية، ولهذا يجب علينا توضيح مسألة هامة جدا، حيث يروج البعض من المؤدلجين  بأن فرنسا الإستعمارية كانت وراء هذه الأزمة، وإتهام وطنيين كبار بأن فرنسا قد حركتهم، فيبدو أنه ظلم كبير في حق هؤلاء الوطنيين الذين أنخرطوا قلبا وقالبا في الحزب الإستقلالي، والكثير منهم من مؤسسيه، كما ألتحق الكثير منهم بالجبل في ماي1945 لإشعال العمل المسلح يوم 23ماي1945 قبل أن تتراجع قيادة الحزب عن ذلك، دون أن ننسى دورهم الكبير أثناء الثورة المسلحة وإستشهاد الكثير منهم في الجبال، أما سلوكهم في 1949 فلم يكن إلا رد فعل طبيعي على رضوخ  مصالي الحاج لضغط القوميين العرب وعلى رأسهم عبدالرحمن عزام الذين ساوموه -حسب ما يبدو- بين دعمهم السياسي  للقضية الجزائرية في هيئة الأمم مقابل إقصاء البعد الأمازيغي وتبني الطرح القومي العروبي في الجزائر.

  لكن لم تتوصل بحوثنا إلى حد الآن إلى إجابة وافية حول إشكالية : هل كان تحرك  مصالي آنذاك عن قناعة أم مجرد موقف تكتيكي منه بهدف إيجاد دعم للقضية الجزائرية من العرب في المشرق، لكن لم يفهمه الذين صدوه على ذلك؟ وهو ما أدى إلى صدام انفلت من الجميع، وطغت عليه العوامل النفسية والعاطفية والمصالح الشخصية أكثر، وماعقد الوضع هو مطالبة من يسمونهم ب”البربريست” بتعجيل العمل المسلح ودمقرطة الحزب، أي نازعوا مصالي في سلطته القوية بداخله، وهو ما دفعه إلى إستخدام كل الأساليب الميكيافيلية واللاأخلاقية بتشويههم وترويج الأكاذيب حولهم، ومنها توظيف مصالي أكذوبتين أساسيتين، ومنها القول أنهم صنيعة الإستعمار إضافة إلى الترويج بأنهم أسسوا حزب خاص بمنطقة القبائل سموه “حزب الشعب القبائلي”، وهي أكذوبة كبرى وظفها مصالي رغم كل التكذيبات، ومنها التكذيب الذي نشره المناضل والمجاهد الكبير علي فرحات آنذاك في يومية ألجي ريبوبليكان، لكن لم يكن مصالي في الحقيقة الذي كان يروج لهذه الأكاذيب إلا مدافعا عن مصالحه وإستبداده داخل الحزب لاأكثر ولاأقل، وطبعا أنتشرت أكاذيبه لدى الكثير من المناضلين، ولازالت سارية إلى حد اليوم عند بعض الجزائريين، فلعل الكثير لايعلم أن نفس هذه االأكاذيب تقريبا كان  يروجها المصاليون عن الذين أشعلوا فتيل الثورة في 1954.

 كما يجب علينا توضيح مسألة حول  من يسمونهم ب”البربريست” في 1949، فهؤلاء في الحقيقة لم يطرحو إطلاقا فكرة أن الجزائر أمازيغية أو عربية أو شيء آخر، بل قالوا آنذاك “أن الجزائر لا هي أمازيغية ولا عربية، بل هي جزائرية فقط بكل مكوناتها”، ويرون أن الجزائريين هم جزائريون وكفى حتى ولو تحدث بعضهم بالعربية، فمثلا هل البرازيلي الذي يتحدث بالبرتغالية هو برتغالي وهل المكسيكسي الذي يتحدث بالإسبانية هو إسباني وهل الأمريكي الذي يتحدث بالأنجليزية هو أنجليزي؟ ونضيف هل السنيغالي الذي يتحدث بالفرنسية هو فرنسي؟.

  نعتقد أن هؤلاء وأنصارهم اليوم قد طرحوا في الحقيقة حلا نهائيا لهذا المشكل الهوياتي لإنقاذ الجزائر من أي تفكك، فهم يقولون أننا “كلنا جزائريون” دون إضافة أي صفة عرقية أو دينية للجزائري، وتبقى مسائل الأصول والإنتماء وغيرها  مسائل شخصية وذاتية مثلها في ذلك مثل المسائل الدينية، ويستندون في ذلك على قيم الديمقراطية، خاصة “مبدأ المواطنة” الذي هضموه جيدا على عكس تيارات ايديولوجية أخرى متأثرة بايديولوجيات مشرقية التي ترفض التعدد، وترى الأحادية في كل شيء، وتسعى لتعميم تصوراتهم ومعتقداتهم الشخصية على كل الجزائريين، مما أثار ويثير ردود فعل طبيعية وحروب هوياتية نحن في غنى عنها.

  ولحسن حظنا اليوم أن الدولة الجزائرية تداركت هذه الأخطاء الجسيمة في السنوات الأخيرة، فأرادت تصحيح الوضع حفاظا على وحدة الجزائر وتماسكها، لكن وجدت في وجهها-حسب ما يبدو- ضغوط لوبيات تابعة لتيارات أيديولوجية مدعومة من قوى مشرقية، وتتحكم بقوة في قطاعات التعليم والإعلام والثقافة والمساجد التي سيطرت عليها في السنوات الأولى للإستقلال، لكننا لا نعفي  أيضا بعض عناصر النظام من  تلاعبهم في بعض الأحيان بمسائل الهوية لخدمة مصالحهم في إطار سياسة فرق تسد، ونرى أن الحل اليوم يكمن في القيام بسياسة عكسية، فكما طمس البعد الأمازيغي بواسطة الأدوات الأيديولوجية للنظام في الماضي، فإننا يمكن تصحيح الوضع بتوظيف نفس الأدوات اليوم لإعادة الإعتبار للبعد الأمازيغي، لكن ليس على حساب مقومات أخرى لهويتنا كالإسلام والعربية التي يجب أن نعتز بها أيضا، بل في تكامل وتناسق تام للأبعاد الثلاث لهويتنا لكن دون إنغلاق قاتل، بل مع تفتح على العالم كله.

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى