أعمدة الرأي

تراجع السياسة أمام النضالات البطنية ؟

تلتزم الجزائر باحترام كل مواعيد تنظيم انتخاباتها الرئاسية والتشريعية والمحلية، لكن عادة ما تقابل هذه الانتخابات بمقاطعة شعبية واسعة جدا، في الوقت الذي تشارك فيها أغلب الأحزاب السياسية إن لم نقل جلها، وعادة ما تبرر بعض الأحزاب أن مشاركتها  في الانتخابات هو تكتيكي تستهدف بها توسيع قواعدها ونشر أفكارها في المجتمع، لكن لو كان فعلا هذا المبرر صحيح، لما تقدم هذه الأحزاب مرشحين محدودي المستوى وغير قادرين حتى على خوض نقاشات فكرية وسياسية لإقناع الشعب بطروحاتها، بل بالعكس الكثير من هذه الأحزاب، تخسر مع كل انتخابات قواعدها لعدة أسباب ومنها: الصراع من أجل التموقع في قوائم المترشحين ورفض الكثير من مناضليها التواجد في أواخر القائمة، هذا في حالة امتلاك هذه الأحزاب فعلا مناضلين سياسيين مستعدين للتضحية من أجل فكرة أو أفكار يؤمنون بها ويعملون من أجل تحقيقها وتجسيدها على أرض الواقع، لكننا نكاد نجزم أن شكل هذا النضال منعدم تماما اليوم في أغلب هذه الأحزاب، فقد انسحب أغلب المناضلين الحقيقيين، وبتعبير أدق دفعوا إلى الانسحاب بأساليب لا أخلاقية دنيئة، وأخذ مكانهم الانتهازيون والوصوليون، وما نسميهم بالمناضلين البطنيين الذين لا يؤمنون أصلا بأي فكرة تدفعهم للتضحية من أجلها، فهؤلاء يعتبرون أي حزب مجرد مركوب للترقية الاجتماعية وتحقيق مكاسب مادية ومعنوية.

أن تراجع النضال من أجل الأفكار والمبادئ وترك المكان للانتهازية والوصولية، سيؤدي حتما إلى تحويل كل حزب سياسي إلى مجرد مركوب للترقية الاجتماعية، فمن الطبيعي في هذه الحالة أن يلجأ الانتهازيون بقوة إلى الأحزاب التي تعتبر مركوبا مضمونا للفوز في الانتخابات أو تحقيق ترقيات في المناصب، ولهذا يمكن لنا القول أننا اليوم فعلا قد حقق البعض الذين كانوا يقولون منذ سنوات أنهم معجبون بالثنائية الحزبية الأمريكية، فقد وصلنا إليها اليوم بسيطرة تامة لحزبي السلطة الأفالان والأرندي على الحياة السياسية، لكن ليس بمناضليهم الغير موجودين أصلا، بل بكثرة انتهازييهم مقابل وجود أحزاب تحولت اليوم إلى مجرد حزيبات بسبب تراجع النضال من أجل المبادئ والأفكار بداخلها، بل عادة ما يتعرض هذا الصنف من المناضلين من أجل الأفكار والمبادئ إلى مضايقات من الرداءة والانتهازيين والوصولويين بداخل هذه الأحزاب، لأنهم يقفون في وجههم ويقلقونهم بمواقفهم ويهددون مصالحهم .

يعد المال الفاسد عاملا رئيسيا في تفسير هذا الضعف الذي تعيشه أغلب الأحزاب في الجزائر، نجد الكثير يتحدثون عن زحف المال الفاسد وسيطرته على دواليب الدولة لدرجة إقالته وزير أول، إلا لأنه أراد تجسيدا عمليا لمبدأ “فصل السياسة عن المال”، لكن لم ينتبه الكثير، بأن المال الفاسد يزحف أيضا للسيطرة على كل الأحزاب، ومنها أحزاب المعارضة، وهو ما يعد أحد أسباب ضعف هذه الأحزاب الأخيرة، فكلما زحف المال الفاسد على أي حزب كان، يتم تمييع الحزب بدفع المناضلين الحقيقيين والنزهاء وأصحاب المبادئ والقيم إلى الخارج بأساليب دنيئة ولا أخلاقية خوفا من إقلاقهم لهذا المال الفاسد ومصالحه، وفي نفس الوقت يتم فتح الحزب للرداءة والوصوليين والانتهازيين والخاضعين وضعاف النفوس، والذين يرون في الحزب مجرد مركوب للصعود الاجتماعي، خاصة أثناء مختلف الانتخابات، فإن تواصل هذا الزحف المالي على الأحزاب، ولم يتحرك مناضليها الحقيقيين لوضع حد لذلك، فلا نستغرب إن سمعنا في المستقبل، بأن هذا الحزب ملكية لفلان والآخر ملكية لفلان آخر، أما المنخرطين في هذا الحزب أو ذاك، فماهم إلا مجرد خدمة لدى هذا الفلان أو ذاك بدل ما يكونوا مناضلين أحرار وأسياد.

لا يجب أن نكذب على أنفسنا، وتخفي الكثير من الأحزاب الشمس بالغربال، فهي في الحقيقة تدرك  جيدا أنها في تقهقر مستمر عن لم نقل الاندثار، لكنها تخفي ذلك بأكاذيب تشبه أكاذيب الصحاف أثناء الهجوم الأمريكي على العراق في 2003، فهي في الحقيقة لا تختلف في ممارساتها عن ممارسات النظام في كل شيء إن لم يكن أبشع منه، ومنها ظاهرة الكذب وإخفاء الحقائق بدل مواجهة حقيقتها كما هي والعمل على إصلاحها لإعادة بناء نفسها فعلا،  لكن إصرار هؤلاء على إخفاء هذه الحقائق يختفي وراءه ربح الوقت الكافي من قياداتها الوطنية والمحلية التي تسمح لها بالوصول إلى مصالحها المادية الضيقة على حساب مصالح هذه الأحزاب ومبادئها وأفكارها ومناضليها.

فلنعترف بأن الأحزاب ضعيفة جدا من ناحية التركيبة البشرية سواء على صعيد الكم أو العدد وكذلك من ناحية القدرات والكفاءات، فنحن لا نفهم كيف بمقدور أحزاب غير قادرة على تجنيد عشرة أشخاص في بلدية أو ولاية، لكنها تقدم قوائم انتخابية بلدية أو ولائية تتجاوز عددها المئة، كما يقع مثلا في العاصمة أو سطيف أو وهران وغيرها، وهنا تحضرنا ما هو غائب، ولعل لا يدركه الكثير، فإن كان البعض يتحدث عن المال الفاسد وشرائه التوقيعات والمراكز الأولى في قوائم الترشيحات، خاصة في الأحزاب المضمونة النجاح كاالأفلان والأرندي، لكن هناك حزيبات او أحزاب أو حتى قوائم حرة يسيطر عليها مال فاسد أيضا، فإنها تشتري ملفات الترشح لإستكمال قوائم ترشيحاتها، ويتم ذلك في بعض الأحيان بثمن بخس جدا لايتعدى ألف أو ألفي دينار مركزة على الفقراء والزوالية أو ما يسميها فرانز فانون بحثالة البروليتاريا المستعدة لبيع كل شيء من أجل بطنها، وعادة هؤلاء لا علاقة لهم بالسياسة أصلا، ولا يعرفون أو يسمعون بالحزب الذي باعوا له ملف ترشحهم لاستكمال قائمة ترشيحاته حسب قانون الانتخابات، فما يهمهم هو ما يقبضونه من مال زهيد، وهؤلاء سنجدهم يوم الانتخابات يبيعون أيضا أصواتهم وأصوات عائلاتهم  لمن يعطي لهم ثمنا أكبر، فإن كان القانون يعاقب شراء المناصب والتوقيعات وبيع الأصوات، فلا نعلم حكمه في بيع ملفات الترشح لاستكمال قوائم الترشيحات، لكن ما هو مؤكد أن الفساد السياسي والحزبي بلغ أوجه في بلادنا للأسف الشديد، فقد تم التراجع تماما عن النضال السياسي بالمشاريع والأفكار إلى النضال البطني الإنتهازي الذي سيطر على أغلب الأحزاب السياسية في بلادنا، وهو ما يتطلب تفكيرا جديا في إنقاذ الحياة السياسة قبل وقوع الفأس على الرأس.

عادة ما تمس ظاهرة شراء ملف الترشيحات العنصر النسوي بكثرة، فالنظام الذي مرر قانون ثلث النساء في أي قائمة للترشيحات لم يكن هدفه في الحقيقة تطبيق مبدأ المساواة بين الجنسين، فصحيح يستهدف من ذلك في الظاهر إرٍسال رسالة إلى الغرب، لكنه في نفس الوقت يشجع فكرا منغلقا وضد المرأة في مختلف وسائل الإعلام، مما يدفع حتى الأحزاب التي بإمكانها ان تستكمل قوائم الترشيحات، فإنها ستجد عراقيل بالنسبة للثلث الخاص بالنساء، وبهذا الشكل مهما فعلت، ستقع في المحظور المحرم قانونا، وهي الإغراءات المالية لاستكمال قوائمها، وفي الأخير كل هذا التعدي من الأحزاب على القانون تعلم به السلطة جيدا وتسجله، لكنها تمارس بها الضغط لإسكات هذه الأحزاب في حالة تزوير الانتخابات دون الحديث عن ضغوطات أخرى تستخدمها ضدها مثل فساد مختلف القيادات الحزبية وشراء ذممها بالسكوت غما عن فسادها أو توظيف هذه القيادات لأحزابها كأداة لتحقيق مكاسب مادية، لأن قيادتها للحزب  سواء محليا او وطنيا يفتح لها أبواب الإدارة، ويمكنها من ربط شبكة علاقات مع مسؤولين تساعدها في تحقيق عدة مكاسب مادية، هذا ما جعل هذه القيادات، تطرد بأساليب ملتوية المناضلين الحقيقيين، لأنها تقلقهم، وتكشف زيفها أمام الرأي العام، وترفض كل هذه الممارسات، وتعوضهم بأغلبية ممن نسميهم بالمناضلين البطنيين، وتستخدم بالالتواء على تأويلات النصوص القانونية للأحزاب حسب رغباتها وتسليط مجالسها التأديبية كمقصلة على كل صوت معارض لهذه الممارسات داخل هذه الأحزاب، ولهذا أفرغت أغلب  الأحزاب من مناضليها الأكفاء والحقيقيين، لتتحول إلى مجرد هياكل فارغة، يغلب عليها مناضلون صامتون وشياتون ينتظرون ترقيتهم إلى مناضلين بطنيين، فالمناضل البطني لا ينظر إلى الحزب إلا كأداة أو مركوب للترقية الاجتماعية لا أكثر ولا أقل.

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى