أعمدة الرأي

حرب إستنزاف فرنسية على الجزائر

تعاني الجزائر منذ فترة من هجرات غير شرعية مكثفة بسبب الفوضى الذي خلفه ما يسمى ب”الربيع العربي” الذي أدى إلى إنهيار دولة ليبيا بإرادة فرنسية تحت قيادة ساركوزي التي أرادت فرنسا اليوم أن تستغبينا، وتصور لنا أن هدفه هو إنقاذ نفسه من كشف القذافي عملية تمويله لحملته الإنتخابية، لكن هل يخفى علينا أن ما وقع في ليبيا بتأثير فرنسي منذ2011 غير كل الخريطة الجغرافية والسياسية في منطقتنا، ولازالت آثار ذلك ممتدة، وستمتد أكثر في السنوات المقبلة، وستمس الجزائر وأمنها الإستراتيجي إن لم نأخذ إجراءاتنا بكل جرأة ودون أي إعتبارات أخرى إلا مصلحة بلادنا التي يجب أن تكون فوق كل إعتبار آخر.

إن الأزمات الأمنية التي عرفتها المنطقة كانت محدودة في الماضي، ويمكن التحكم فيها، لكن بعد نشوب ما سمي ب”الربيع العربي” إنفلت الوضع الأمني نهائيا، خاصة بعد تأثير الأزمة الليبية على شمال المالي الذي أعطى دفعا قويا لحركة الأزواد قبل أن تستغل ذلك الجماعات الإرهابية التي لقيت دعما من دول أجنبية في إطار إستراتيجية للتدخل في المنطقة ثم السيطرة عليها، مما أصبح يهدد المنطقة كلها، خاصة بعد التدخل العسكري الفرنسي بعمليات سرفال، كما تفاقم الوضع الأمني في ليبيا، وهو ما جعل أكبر دولتين تمتلكان حدودا مع عدة دول، وهما المالي وليبيا في وضع أمني هش وضعف للدولة، مما سهل التحركات السكانية غير الشرعية، خاصة الجماعات الإرهابية من جهة، إضافة إلى الحركية التجارية الغير الشرعية، بل بتعبير أدق تجارة المخدرات والجنس الأبيض وحتى تجارة في البشر في ليبيا مؤخرا، كما توقفت كل المشاريع الإقتصادية الحدودية التي أنشأت بموجب إتفاقيات تكامل إقتصدي، فأثر ذلك كله بشكل كبير على دول الجوار لهذين البلدين، خاصة الجزائر وتونس بالنسبة لليبيا، وكذلك الجزائر بالنسبة للمالي، فضعف الدولة في المالي وتفاقم الوضع الأمني فيه، خاصة في شماله إضافة إلى الإنهيار الكامل للدولة في ليبيا، أدت إلى إثقال كاهل الجزائر التي أصبحت لوحدها تقوم بمهام حفظ حدودها دون أي مساعدة من هاتين الدولتين اللتان غرقتا في الفوضى، أي بتعبير أدق تقوم بمهمتها ومهام الدول التي تأتي منها كل الحركية السكانية والإقتصادية، وهو ما جمد قوات كبيرة من الجيش الجزائري على كل من الحدود الجزائرية-الليبية والجزائرية-المالية بكل إنعكاساتها المالية والنفسية والمعنوية والبشرية، وهو ما يمكن أن يفاقم الوضع في الجزائر مستقبلا مع بروز بوادر أزمة إقتصادية ومالية في الجزائر بسبب إنخفاض المداخيل النفطية، فيجب أن نضع في أذهاننا بأن جيش قوي دون إقتصاد قوي، يؤدي دائما إلى إنهيار الأمبرطوريات كما وقع في الإتحاد السوفياتي، فما بالنا بدول متوسطة، وقد أثبت ذلك بول كنيدي بتفصيل كبير في كتابه القيم “سقوط وصعود القوى الكبرى”.

ما وقع في ليبيا أثر في الساحل خاصة في شمال المالي الذي أعطى ذريعة لتدخل عسكري فرنسي فيها منذ بدايتها بعمليات سرفال في2013، لكن ما يخشى اليوم هو تأثير التدخل الفرنسي في المنطقة ومحاولات مشبوهة منها لدفع المهاجرين غير الشرعيين وكذلك الجماعات الإرهابية إلى حدود الجزائر، مما دفع الجزائر إلى غلق الحدود ونشر قواتنا العسكرية بشكل كبير على طول حدود ممتدة على آلاف الكيلومترات في كل من ليبيا والمالي، وكل ذلك بإنعكاساته النفسية والمعنوية والمالية والبشرية، فهل سيصمد جيشنا طويلا أمام جحافل الهجرات الغير شرعية والجماعات الإرهابية التي ستتكثف بقوة في السنوات القادمة بفعل عدة عوامل سنذكرها فيما بعد، خاصة إذا رافق ذلك أزمة مالية وإقتصادية حادة، فقوة أي جيش غير كافية إذا لم تصحبها قوة إقتصادية كما ذكرنا آنفا، فكل هذا يدفعنا اليوم إلى التفكير الجدي في حلول أكثر فعالية لمواجهة هجرات غير شرعية مرفوقة بمنظمات إجرامية، خاصة المخدرات والمرتبطة ليس فقط بتمويل الجماعات الإرهابية، بل إمكانية تغلغل الإرهابيين مع هؤلاء المهاجرين أو إنخراط  جزء كبير منهم في الجماعات الإرهابية كمرتزقة، مادام هدفهم العمل مقابل أجور، فما يمنع البعض من هؤلاء المهاجرين من الإنخراط  في هذه الجماعات التي تخطط منذ فترة إلى محاصرة دولنا من الأطراف، ومنها الجزائر في الصحراء بضرب منشآتها النفطية.

لا يمكن أن نطمئن إلى أمننا الإستراتيجي إذا كان وزير الداخلية يصرح بإيقاف ما معدله  500 محاولة يوميا لتغلغل مهاجرين غير شرعيين إلى الجزائر، كما أوردت معلومات رسمية بأن الجزائر تنفق سنويا ما مقداره 100مليون أورو لإعادة المهاجرين الغير شرعيين إلى دولهم وفق إتفاقيات معها، فالسؤال المطروح ما مستقبل هذه الحركية؟

يمكن لنا أن نحدد أربع عوامل ستتحكم في مستقبل هذه الهجرات غير الشرعية، فإضافة على ما يمسى ب”الربيع العربي” بكل إنعكاساته الأمنية على المنطقة، فقد أصبحت الجزائر اليوم مكان للإستقرار فيها بعد ماكانت في الماضي مجرد معبر، ويعود ذلك على سببين وهما: الفوضى الأمنية في ليبيا التي حولت وجهة المهاجرين الغير شرعيين من ليبيا إلى الجزائر، فقد كانت هذه الهجرات التي يمكن أنها تعبر الجزائر تذهب إلى أوروبا وجزء آخر يستقر في ليبيا الجالبة للعمالة الأفريقية في عهد القذافي، لكنها بعد الفوضى في ليبيا والإجراءات التي أتخذتها أوروبا التي وضعت سورا وجدارا غير معلن ضدها، فإن هذه الهجرات ستستقر في الجزائر، وبشكل أقل المغرب وتونس بكل إنعكاساتها.

كما ستزداد هذه الهجرات بسبب عدم الإستقرار الذي وراءه تدخل القوى العالمية وتنافسها الحاد في منطقة الساحل الغنية بالموارد الطبيعية، كما أن هناك محاولات أمريكية لإثارة الفوضى في المنطقة لإقلاق أوروبا المنافسة لها على الزعامة الدولية إلى جانب الصين وروسيا دون أن ننسى حتى تدخل قوى أقليمية متوسطة في المنطقة في إطار صراعاتها مثل السعودية وإيران وتركيا والكيان الصهيوني، وستتضخم أكثر بفعل العولمة والتطور التكنولوجي للإتصالات والمواصلات.

لكن تشكل التغيرات المناخية عاملا رئيسيا في الحركية السكانية، فهو العامل الرئيسي المؤثر فيها، توجد عدة دراسات فسرت مثلا الأزمة السورية بالتغيرات المناخية التي قللت من إنتاج القمح والحبوب، كما توجد دراسات تذهب نفس المنحى بالنسبة لمشكلة دارفور في السودان، فقد حدد الباحث بيير جانين Pierre Janin  العلاقة الوطيدة بين التغيرات المناخية والمجاعات في أفريقيا التي أدت إلى هجرات وأزمات أمنية حادة جدا، وتذهب بعض الدراسات المستقبلية إلى التأكيد على فقدان عشرات الملايين من  الفلاحين في الساحل وغرب أفريقيا لآراضيهم بسبب الجفاف الناتج عن التغيرات المناخية في أفريقيا، خاصة غربها، فهؤلاء سيتحولون إلى مهاجرين غير شرعيين إلى الفضاء المغاربي، ولا ننسى أن هذه التغيرات المناخية، ستنتج حروبا حول المياه في غرب أفريقيا، ولو أن هذه الصراعات القبلية قديمة وموجودة في الماضي، لكنها ستزداد ضراوة، لأن الحروب حول المياه هي من حروب المستقبل في عدة مناطق من العالم، مما سينتج أزمات حادة في المنطقة، فالتغيرات المناخية لا تظهر كسبب مباشر، لكن كسبب غير مباشر، فهذه التغيرات المناخية تعد أحد العوامل الرئيسية التي تختفي وراء هجرات السكان من غرب أفريقيا إلى الدول المغاربية، ومنها إلى أوروبا التي وضعت عراقيل وإجراءات فعالة في وجهها لتتأثر اليوم الدول المغاربية أكثر بهذه الهجرات .

وسيتفاقم الوضع أكثر بعد دعوة دونالد ترامب إلى الإنسحاب الأمريكي من معاهدة باريس للمناخ، وهو ما سيشكل تأثيرا فعالا على التغيرات المناخية مستقبلا بكل إنعكاساتها الإقتصادية والسكانية والأمنية، خاصة في أفريقيا، فقد حذر تقريرا للبنك الدولي نشر في مارس2018 من تأثيرات التغيرات المناخية على حركية السكان إن لم تؤخذ إجراءات جادة لمواجهة هذه التغيرات، وقال التقرير أن من اليوم إلى 2050 ستعرف أفريقيا جنوب الصحراء 86 مليون مهاجر مقابل 40مليون من جنوب آسيا و14 مليون من أمريكا اللاتينية، فلا داعي لنا أن نقول أن أغلب الهجرات السكانية من أفريقيا جنوب الصحراء ستتجه إلى الدول المغاربية بعد الإجراءات الفعالة التي أتخذتها أوروبا لمواجهتها.

إن كل هذه الأخطار الأمنية المهددة للجزائر يتطلب التفكير الجدي لمواجهتها قبل إستفحالها ويصعب التحكم فيها، وقد عرف التاريخ البشري ظاهرة الهجرات المهددة لأمن الدول، وكان لها تاثيرات غيرت وجهة التاريخ بكامله، فمثلا عرفت الصين في الماضي القديم خطر هجرات وهجمات، ممن تسميهم “البرابرة”، ويتمثلون في المغول، فلجأت آنذاك إلى إقامة سور الصين العظيم الذي بقي صامدا إلى اليوم، وتحول إلى تراث إنساني، لكن نسيت الإنسانية أن سور الصين العظيم قد أنقد الصين وحضارتها من هجمات وهجرات للجائعين، فلجأ هؤلاء إلى أماكن أخرى، ومنها العالم الإسلامي، فتمكن المغول من تدمير الحضارة الإسلامية في بغداد التي لم تنتبه إلى هؤلاء في الوقت الملائم ، كما فشلت الحضارة الرومانية من دفع هجمات وهجرات ما تسميهم “البرابرة” في أوروبا، والتي أتت شيئا فشيئا على روما كاملة، وقضت عليها في754ميلادي، ألا يشبه سور الصين العظيم الذي بني في الماضي لمواجهة تلك الهجرات بإنعكاساته على الحضارة الإسلامية نفس ما تقوم به أوروبا اليوم بإجراءاتها ضد هذه الهجرات مستفيدة من دروس الماضي التاريخي، وسينعكس ذلك كله سلبا على بلداننا نحن، فإن لم نفكر في ذلك من الآن، فإننا سندفع ثمنا باهظا في المستقبل، كم كنا نفضل أن تتعاون معنا أوروبا لحل مشكلة المهاجرين في إطار شراكة أوروبا-الفضاء المغاربي-الساحل، وذلك بمساعدتنا تكنولوجيا للقيام بتنمية شاملة في الصحراء الكبرى، يمكن أن تحولها إلى جالبة للعمالة الأفريقية لتستقر فيها في إطار شرعي منظم، كما يحدث في دول الخليج التي تجلب العمالة من جنوب شرق آسيا، لكن أوروبا الأنانية  لاتنسق معنا إلا في المجالات الأمنية إن لم نقل أنها تخطط للسيطرة على القارة بأشكال أخرى، وعلى رأسها فرنسا، وهذا مايظهر بجلاء من ممارسات هذه الأخيرة في الساحل وضغطها على الجزائر وحدودها بالمهاجرين الغير الشرعيين والجماعات الإرهابية التي تجمعت هناك بعد الضربات التي تلقتها داعش في سوريا والعراق وليبيا، فلم تنس فرنسا مشروعها الإستعماري القديم في فصل الصحراء الجزائرية ثم السيطرة التامة عليها.

إن الحركية السكانية كالهجرات غير الشرعية والجريمة المنظمة والمتاجرة في المخدرات والسلاح والبشر والإرهاب سيأخذ أبعاد خطيرة في المستقبل، خاصة بتنامي التغيرات المناخية والحروب والمشاكل الإجتماعية التي يبدو أنها لن تتراجع إلا إذا أتخذت إجراءات جريئة في المنطقة في إطار شراكة جادة بين ثلاثية أوروبا-الفضاء المغربي-الساحل، خاصة مساعدة تكنولوجية ومالية أوروبية في المجال التنموي للساحل والصحراء التي تعد المعبر الرئيسي للمهاجرين الغير شرعيين، كما علينا الإستفادة من تجارب تاريخية ناجحة في الحد من هذه الأخطار قبل أن نفاجأ بها، وتحطم دولنا شيئا فشيئا لأن الهجرات الغير شرعية الناتجة عن البؤس الإجتماعي والمرفوقة بالجريمة المنظمة وإستغلال الجماعات الإرهابية لها تفتك وتنخر الدول والحضارات بدرجات طفيفة عبر الزمن ودون أن نشعر بقوة بها حتى يتم الإنهيار والسقوط النهائي.

البروفسور رابح لونيسي – جماعة وهران-

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى