أعمدة الرأي

في ذكرى 24 فيفري …من أجل إعادة طرح المشاكل الجوهرية

يحتفل الجزائريون كل 24 فبراير بذكرى تأسيس الإتحاد العام للعمال الجزائريين في 1956 على يد الشهيد عيسات إيدير  وذكرى تأميم المحروقات في 1971 على يد الرئيس هواري بومدين الذي أعطى للجزائر 51%، ممايسمح لها بقرارات سيادية في مسائل المحروقات بعد ماكانت ناقصة جدا بحكم إتفاقيات إيفيان، لكن نعتقد أن الجزائر بعد 1962 لم تكن تمتلك الموارد البشرية والتقنية للتحكم في تسيير المحروقات، مما دفع إلى تكليف بلعيد عبدالسلام بإنشاء شركة سوناطراك والتكفل بتكوين الإطارات، وهو ما سمح للجزائر من الإستقلالية في 1971، فمن المؤكد أن 24 فيفري جدير بالإحتفالات والتخليد، لكن عادة مايغلب عليها البهرجة  دون أن نطرح يوما نقاشا جادا حول المسائل المتعلقة بالعمال ومداخيل المحروقات والأجور التي تعد مسائل جوهرية لبناء مستقبل الجزائر.

أكبر قضية يجب أن تشغل العمال اليوم هو إستقلالية النقابات، لأن ذلك مهم جدا، فحتى لو أن الإتحاد العام للعمال الجزائريين أنشا لدعم الثورة، إلا أنه حافظ نوعا ما على إستقلاليته آنذاك كي يسمح له بدخول المنظمة العالمية للنقابات، لكن فقد هذه الإستقلالية بعد إسترجاع الإستقلال، فرغم حرص قياداتها على إستقلاليتها إلا أن نظام بن بلة رفض ذلك، وسارع لإلحاقه بحزب الآفالان، وأستخدمت ضغوطات عدة عشية مؤتمر الإتحاد المصيري في 1963، ومنها إعتقال بن بلة لهذه القيادات بشكل مضحك بعد أن دعاها إلى مأدبة عشاء، إلا لكي يضغط عليها عشية مؤتمرها، والتي أنبثقت عنه قيادة تابعة، فمنذئذ أنتهى الإتحاد، ووصل إلى درجة منع الإضرابات في عهد بومدين، وإعتبارها جرما، فهو ما يعني منع أحد الأساليب النضالية الأساسية للدفاع عن حقوق العمال، ونعتقد أن هذا هو الخلاف بين الجزائر وتونس التي حافظ فيها الإتحاد العام للشغل التونسي على إستقلاليته، وهو التنظيم الذي أسسه الشهيد فرحات حشاد، والذي تعلم عنه عيسات إيدير أساليب النضال النقابي، فقد حافظ الإتحاد التونسي على إستقلاليته،  ودخل كقوة معارضة سواء للرئيس بورقيبة ثم بن علي، وبرز دوره بشكل كبير اثناء الثورة التونسية في 2011، كما لعب دورا رئيسيا في الضغط على القوى السياسية بعد الثورة للتوصل إلى توافق دستوري وديمقراطي، مما مكن تونس من تجاوز المصاعب السياسية  والنجاح نسبيا في إنتقالها الديمقراطي بعد 2011.

لكن فقد الإتحاد العام للعمال الجزائريين دوره، عندنا أصبح مجرد تابع، ويخضع  لما يأمره به النظام، وهو ما ينطبق على كل تنظيمات المجتمع المدني، خاصة في عهد بومدين، ونستثني من ذلك الإتحاد الوطني للطلبة الجزائريين الذي أخذ مكان “الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين” بعد مؤتمر1963 دافع هذا التنظيم الطلابي على إستقلاليته بحكم سيطرة القوى اليسارية والديمقراطية عليه، فأضطر بومدين إلى إستخدام القوى الدينية ضد هذا التنظيم، والذي تم حله في 1968 بالقوة بعد محاصرة مكاتبه ومقراته وإعتقال الكثير من قياداته، فقد كان هذا التنظيم الطلابي آنذاك من أشد المدافعين عن العمال ذاتهم، ومعروف بنقده  لنظام بومدين وإشتراكيته التي أعتبروها آنذاك “رأسمالية دولة”، وستنتج طبقة برجوازية بيروقراطية إستغلالية ستقضي على كل المكاسب الشعبية، وهو ما وقع فعلا فيما بعد، فقد كانوا طلبة بوعي سياسي كبير، لكن القضاء على هذا التنظيم بتوظيف القوى المستغلة للدين، مهد ووضع بذور ما وصلت إليه جامعاتنا اليوم من ضعف الوعي السياسي والإستقالة من شؤون الأمة وسيطرة الرداءة والدروشة والأفكار البلحمرية والبلخضرية والجنية وغيرها.

إن أخطر ما تخشاه الأنظمة الإستبدادية هي النقابات المستقلة خاصة، والمجتمع المدني المستقل عامة، لأنه سيشكل قوة مضادة توازن الطغيان في أي دولة كانت.

أما القضية الثانية التي تخص العمال فهي مسألة الأجور وقوة تمثيلهم في مؤسسات الدولة، فبشأن مسألة التمثيل، فقد كتبنا في عدة مقالات سابقة، ووضحناها بتفصيل أوسع في كتبنا، ومنها كتابنا “لنظام البديل للإستبداد” أين طرحنا فكرة تمثيل برلماني لكل مختلف شرائح المجتمع، وستكون كل شريحة إجتماعية هي الدائرة الإنتخابية بدل الولايات اليوم، والتي ستنتخب على ممثليها في البرلمان، بما فيها كل شرائح الطبقة الشغيلة التي تمثل الأغلبية، وتمتلك كل شريحة إجتماعية حق الفيتو على كل قانون يناقض مصالحها.

وتناولنا في نفس الكتاب مسألة الأجور، فنحن ننطلق من رفضنا للأجرة، ونعتبرها أداة إستغلالية، فليس فقط إنطلاقا مما كشفه كارل ماركس عن ما أسماه ب”فائض القيمة” الذي يأخذه المالك بإستغلال العامل مقابل إعطائه أجرا حديديا ليجدد طاقته.

إن الأجرة اليوم هي وسيلة استغلال بشعة تمارس ضد الإنسان، فإن أجراء اليوم يشبهون عبيد الأمس، حتى ولو نالوا حريتهم نوعا ما، ويعود ذلك إلى أن النظام العبودي والإقطاعي يتم فيه الإستغلال بشكل شفاف ومباشر، على عكس النظام الرأسمالي، أين يتم الإستغلال بشكل ناعم، ولهذا يمكن لنا القول أن العبد في الماضي بدل أن يعطى له أجرا حديديا كافيا لسد رمقه وتجديد طاقته للعمل فقط، فإنه على الأقل يختصر سيده الطريق، ويوفر عليه مشقة ذهاب الأجير اليوم إلى السوق باحثا عن أرخص السلع لتجديد قوة عمله.

ولهذا فإنه لا فرق بين الأجراء والعبيد في النظام الرأسمالي فهم على السواء مجرد آلة تحتاج إلى الصيانة، فإن كان ماركس الذي فكك آليات النظام الرأسمالي، وكشف “فائض القيمة” الذي يأخذه المالك بدل مايعطى للعمال الذين أنتجوها بمجهود عملهم، وهوما يعني في الأخير أن يأخذ العامل كل مجهوده بدل ما يأخذ المالك جزء منه، ويكتفي بإعطائه أجرا حديديا لتجديد طاقته في العمل، لكن المتأمل في القرآن الكريم يكتشف بأن الله سبحانه وتعالى، قد أشار إلى ذلك في آية صريحة عندما يقول “وأن ليس للإنسان إلا ماسعى” ، فإن طبقنا هذا المبدأ في المجال الإقتصادي، فمعناه أن يأخذ العامل قدر العمل أو المجهود الذي بذله كاملا، وهو ما يعد في نظرنا حلا نهائيا للمشكلة التي طرحها ماركس حول نهب الرأسمالي جزءًا كبيرا من قيمة العمل للبروليتاري، فبنى عليها ماركس حله المتمثل في نزع وسائل الإنتاج من الرأسمالي وإعطائها للبروليتاري، لكن ما طرحه ماركس هو رد حق للعامل بظلم أكبر لصاحب العمل، لأنه من الصعب التأكد من مصدر حصوله على وسائل الإنتاج، أفلا يمكن أن يكون صاحبها قد بذل مجهودا أكبر بقدرته الحصول عليها.

وعلى هذا الأساس حاولنا في العديد من أعمالنا  طرح صيغة تنظيمية جديدة توفق بين الإقتصاد التنافسي من جهة والإبقاء على الملكية جماعية في يد العمال، ويستفيدون بشكل كامل من مجهودهم وعملهم، فأقترحنا تنظيما جديدا للمؤسسة الإقتصادية التي تمول من بنوك أو حتى من رجال مال، ويكون نوع من شراكة بين العمال من جهة والممولين من جهة أخرى، وتستند  على تقاسم الأرباح بنسب محددة بين كل الأطراف، فإن ربحت المؤسسة تقسم الأرباح بين العمال، كما يأخذ الممولون جزء منها، وبهذا الشكل تكون المنافسة بين مختلف المؤسسات والشركات العمومية بكل حرية، وبنفس الشكل التنافسي بين الملاك في النظام الرأسمالي، لكن الفرق إستفادة المالك من الأرباح في النظام الرأسمالي، ويكتفي بإعطاء أجور حديدية للعمال، وغالبا ماتكون ضئيلة بفعل تهديدهم بالجيش الإحتياطي للعمال، وهو ما أعتبره إستعباد، لكن في التنظييم الجديد للمؤسسة الإقتصادية الذي طرحته بوضوح، خاصة في كتابي “النظام البديل للإستبداد”، فقد قلت بإستفادة العامل بكل مجهودات عمله، أي يأخذ الأرباح حسب عمله وإنتاجه، لأن المؤسسة ملكيته، لكن بعد ما يدفع الظرائب وجزء منها لتجديد الآلات، وجزء آخر لتمويل إنشاء شركات إقتصادية أخرى، طبعا لايمكن لنا تفصيل ذلك كله في هذه المقالة البسيطة.

أما النقطة الأخيرة التي تحتاج إلى نقاش فهي كيفية الإنتقال من إقتصاد ريعي إلى إقتصاد منتج، لكن نسجل للتاريخ أن الرئيس  بومدين هو الوحيد الذي فكر، وسعى فعلا لإحداث هذه النقلة، لكن فشل مشروعه التصنيعي الطموح بسبب تضييقه على الحريات وعدم بناء مؤسسات ديمقراطية قادرة على حماية المشروع وكشف زلاته وإختلالاته لتصحيحها في الوقت الملائم، فأنهار المشروع مباشرة بعد وفاته، فمتى سنفكر بجدية، وتكون لنا إرادة سياسية مبنية على تخطيط إستراتيجي محكم للخروج من الإقتصاد الريعي الذي يعتمد على النفط؟ متى سنقيم إقتصادا منتجا يخلصنا نهائيا من أي تبعية لموارد نفطية أو ريعية أخرى لانتحكم فيها؟.

   البروفسور رابح لونيسي – جامعة وهران –

                                                         

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى