تحقيقريبورتاج

مُحَمَذْ أَعْرَابْ ، مُحَمَذْ أَقْبَايْلِي!

 

عندما يعانق الأمازيغي الجزائري أخاه العربي الجزائري

لم أعرف من أصدقاء  “vava”ـ أبي ـ إلا صديقا واحدا ولم يكن أمازيغيا ،يَّلَّى ذْعْرَابْ  ـ كان عربيا ـ!،واسمه محمد وكان أبي يناديه ” محمذ أعراب” ـ محمد العربي ـ ،كما أني لا أذكر أن والدي استضاف صديقا غيره أبدا ،فعادتنا تبقي أصدقاء الرجل خارج حدود بيته دائما ونادرا ما يدخل الرجل رجالا آخرين إلى بيته إن لم يكونوا من الأقارب المقربين من أخوال وأعمام ،لكن صديق أبي العربي كان الشخص المستثنى من هذه العادة التي تمسك بها أبي طول حياته ،حتى أن لبيتنا ثلاثة مداخل بدل بيت مدخل واحد فأحيانا يخرج أقارب من باب ليدخل آخرين لأن بعض الأقارب يحجبون نساءهم عن غيرهم …كما أن الرجال في المناسبات السعيدة أو الحزينة لا يختلطون بالنساء أبدا فللرجال غرفة وللنساء غرفة أخرى…

صديق أبي اسمه ” محمد ” ـ محمذ أعراب ـ رجل طويل القامة ،أسمر البشرة ،أظن أن عيناه سوداوان …أذكر أني رأيته مرة واحدة جالسا في صدر بيتنا ،يومها كنت جالسة على حجر أبي أراقب هذا الرجل الذي يتحدث لغة لا أفهمها ،لغة أسمعها لأول مرة ،كنت أراقب حركة شفتيه ،حركاته ،طريقة تناوله للطعام ،ابتسامته …

وكنت سعيدة جدا لسعادة أبي الذي دخل على أمي وأخبرها وهو يبتسم:

ـ يُسادْ محمذ أعراب ،يُسَادْ وَحْبِيبِوْ ـ جاء محمد العربي ،جاء صديقي ـ

وفي كل زيارة له كان يطلب  من أمي تحضير ألذ طعام لإكرام صاحبه فيقتني اللحم حينا لتحضير الكسكسي أو تقوم يمّا بذبح إحدى دجاجاتها العزيزات  لتحضير وليمة شهية للضيف العزيز…كنت أرى والدي ” محمد السعيد ” الأمازيغي يقسم لصديقه ” محمد العربي ” بأن يأكل وأن لا يخجل ويسأله عن أحواله …وكان الصديق يجيبه بتلك اللغة الغامضة ـ التي لم أعرفها وقتها ـ و والدي يفهم ما يقوله ،علما أن أبي كان أميا وصديقه كذلك ،لكن كل واحد منهما  كان يحب الآخر ،يراعي الآخر ،ويفهم الآخر .

صديق والدي كان “موالا” ـ راعي غنم ـ وكان إضافة إلى ذلك يتاجر بصوف أغنامه ،ولأن والدتي ككل النساء الأمازيغيات تنسج البرانيس وأغطية السرير ( إحُيَاكْ ـ إحَمْبْلانْ) درج أبي على التنقل لقرية صديقه لشراء الصوف منه ،كان يذهب محملا بالهدايا له من زيتون مجفف وقديد وزيت زيتون وبعض أكلاتنا التقليدية…فيقضي ليلة في بيت صديقه ليعود في اليوم الموالي بالصوف الذي تحتاجه يما لنسيجها ،وعندما يحضر ” محمذ أعراب” لبيتنا كان يحضر إضافة إلى الصوف بعض المأكولات التي تصنعها زوجته وبعض التمر كهدية فيبيت عندنا ويسعد أبي به ومعه ليعود لقريته مرة أخرى…

سبل الحياة فرقت والدي عن صديقه لكنه ظل يتذكره ويتذكر طيبته ويذكر لنا مناقبه ،حتى أنه أحس بوفاته رغم انقطاع أخباره عنه لسنوات ،ورغم أمراض أبي الكثيرة وضعفه طلب من أخي أخذه لزيارة صديقه العربي وبكاه بحرقة عندما أخبره أولاده بأنه توفي قبل أشهر من زيارته تلك ،وحزن عليه طويلا.

فلاح و راعي غنم ،من منطقتين مختلفتين ،بلغتين مختلفتين ،بعادات وتقاليد مختلفة إلا أنهما كانا جزائريان ،ولدا في هذه الأرض وتربيا تحت سمائها وأكلا من خيراتها وصادقا بعضهما البعض ،احترما بعضهما البعض ،تزاورا …عرف كل واحد منهما أبناء الآخر ولم يعرفا شيئا اسمه التعصب ،لم ينزعج أحدهما من اختلاف الآخر ،كانا جزائريان احترم كل واحد منهما الآخر وأحبه كما هو…

من أبي تعلمت أن أنظر لما في داخل الانسان دون أن أهتم بلغته المختلفة عن اللغة التي أتحدثها ،من أخي تعلمت أن أقرأ بالعربية ،تعرفت على الأدباء العرب قبل غيرهم ،قرأت قصصا كثيرة ثم روايات كثيرة …لكن اصطدامي بالدارجة كان متأخرا جدا ،العامية بالنسبة لي لهجة بعض الأفلام في التلفزة ،ناسها يظهرون لي بالأبيض والأسود فقط ،لذا عندما التحقت بالمعهد التكنولوجي للتربية قضيت الشهور الأولى أحاول فهم ما يقوله زملائي وزميلاتي الذين يتحدثون بالدراجة التي لم أكن أفهم أغلب كلماتها ،وأذكر أني طلبت من أحد أساتذتي تدرسينا بالفصحى لأني لم أكن أفهم ما يشرحه بالدراجة الغريبة عن سمعي وعالمي ،وذلك الأستاذ استجاب لطلبي …وأذكر سخرية بعض زميلاتي مني وتعاليقهن عندما أتحدث إليهن بالفصحى :”كأنها خرجت من مسلسل مدبلج… !” ،لكن ذلك لم يكن يزعجني وتوقفت تعاليقهن عندما فهمن أني لا أعرف الدارجة فحاولت تعلم الدراجة بمساعدتهن ،حتى أني اتفقت مع صديقتي العربية واسمها آمال أن تعلمني الدراجة مقابل تعليمي لها للقبائلية ،فشلت كلانا في تعلم لغة الأخرى لكننا كنا قريبات من بعضنا البعض هي بلهجتها العامية وأنا بلغتي الفصحى التي أدخل عليها بعض الكلمات العامية لإسعادها …

هل التقيت بمتعصبين ؟ نعم ومن الجانبين لكني كنت محظوظة لأني تعرفت على أناس رائعين تعلمت منهم أن اختلاف اللغات واللهجات في الجزائر عامل ثراء ،وأن الأمازيغية لم تكن أبدا عدوة للعربية …المشكلة في محاولة البعض انكار لغة الآخر ،تراث الآخر ،ثقافة الآخر لغاية في نفس يعقوب …وتعلمت أن أضعهم جانبا وأن أقدر هؤلاء الذين يحاولون مثلي بناء جسور محبة وتواصل بين كل الجزائريين مهما كانت لهجتهم أو لغتهم ،ففي النهاية ليس لدينا إلا جزائر واحدة ـ بلد واحد ـ وما يجمعنا أكثر مما يفرقنا ،وسواء رسمت الأمازيغية أم لم ترسم فستظل موجودة  كالعربية تماما ،وستظل مصدر ثراء للثقافة الجزائرية وعنصر من عناصر الهوية الوطنية التي لا يستطيع أحد مهما طغى أو شتم أو أنكر أن يلغيها أو أن يجبر الأمازيغي على التخلي عن لغته بكل لهجاتها أو أن ينسى تراثه وموروثه الحضاري…

من القلب أتمنى أن تتوقف الحرب الافتراضية بين معارضي ترسم الأمازيغية ومؤيدي ترسيمها ،وأنبه البعض ممن يكتب وينشر ثم يفكر بعد ذلك أنكم في وقت قريب هللتم وصفقتم لقرار وزارة التربية الوطنية لتعميم تدريس اللغة الأمازيغية في اثنين وعشرين ولاية واعتبرتم ذلك ديمقراطية وخطوة ايجابية للاعتراف بكل مقومات الهوية الوطنية الجزائرية فماذا تغير اليوم؟ثم نحن الآن أمام مشروع تعديل دستور قد يصادق عليه البرلمان أو قد لا يصادق عليه وقد تحذف المادة التي أزعجتكم فانتظروا واحترموا رأي من انتخبتم عليه في حين أن مقاطعة الانتخابات منذ سنوات كانت لغة منطقة القبائل …فثقوا في أن من نالوا أصواتكم سيختارون ما يناسبكم !ثم أن البعض يعتبر الأمازيغية مجرد لهجة أو لغة ميتة فما الضرر إن رسمت لغة ميتة؟!

وتذكروا أن أطفالنا يقرؤون ما تكتبونه ومنكم يتعلمون التعصب أو قبول الآخر وأنه سيأتي يوم قد تحاول الهروب من مسؤولية ما كتبته ولن تتمكن من ذلك ،فدور النخبة المثقفة أن ترقى بنفسها عن أي فكر انفصالي ،مبني على التعصب وأن تجمع ما فرقه الجهل والسياسة التي تصطاد في المياه العكرة فما يقبل من العامة لا يقبل من المثقف.

كلنا جزائريون ولو تحدثنا بألف لغة ولو رسّم الدستور عشرة لغات بدل لغتين فقط…بالنسبة لي على الأقل،و أنا جزائرية أمازيغية ولن يغير شيء ذلك وجزائريتي تسبق دوما أمازيغيتي ،ولا أنكر أي مقوم من مقومات الهوية الجزائرية فالتعصب وإنكار الآخر لم يكن أبدا ديدني …ولم أربَ عليه.

بقلم / نجاة دحمون

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى