أعمدة الرأي

برلمانات وثورات ودساتير

 

 

صوت البرلمان بغرفتيه على التعديلات الدستورية ب499صوت، وتعددت التعليقات مابين رافض وراض، ومنها تعليقات عناصر من السلطة وأحزاب الموالاة، أنه بذلك دخلنا “الجمهورية الثانية”، وقول آخرون بدخولنا “الدولة المدنية”، فهذا الكلام معناه تم إحداث تغيير جذري في النظام السياسي، فإن كان كذلك، فبأي حق لايستفتى على هذا الدستور شعبيا؟، لأن أي مساس عميق بالمؤسسات في أي تعديل دستوري، يجب أن يمر على إستفتاء شعبي على عكس تعديلات طفيفة، أين يتم الإكتفاء بتصويت البرلمان بغرفتيه.

هذا مايدل إلى أي مدى وصل فيه ضعف الثقافة السياسية في بلادنا سواء لدى السلطة أو المعارضة، والذي ماهو إلا نتاج ميكانيزمات وآليات وضعت في 1962، ولم تنتج لنا إلا طبقة سياسية مزيفة ورديئة في كل المستويات، ولهذا فلا نرى أي تغيير حقيقي وإيجابي في الجزائر إلا بإعادة النظر في هذه الآليات والميكانيزمات، فهو المشكل الجوهري للجزائر، فإن لم يحل هذا المشكل الرئيسي والجوهرية، فلن يحل أي شيء، فمايقدم بأنها إصلاحات عميقة، ما هي في الحقيقة هي إلا مجرد ترقيعات لاتمس بالجوهر.

لكن بغض النظر عن ذلك كله، فقد سئم الشعب الجزائري من خطاب الطرفين سلطة ومعارضة، فاستقال من الحياة السياسية تماما، فأصبحت الساحة فارغة، وهو ما يشكل خطرا كبيرا على مستقبل البلاد، لأن الفراغ السياسي ستملأه قوى فاشية بعناصر غوغائية مدمرة، كما وقع مباشرة بعد عام 1988، مما أفسد عملية الإنتقال الديمقراطي، ثم إجهاضها بعد توظيف لهذه الغوغائية والقوى الفاشية بإسم الدين  من عناصر محافظة في النظام ومعادية لأي تغيير ديمقراطي فعلي في البلاد، وكلنا يتذكر كيف وظف الفيس المنحل من هؤلاء لإجهاض إصلاحات مولود حمروش السياسية والإقتصادية رغم نقائصها،  وهو نفس التوظيف بدأ  يحضر له اليوم لإجهاض أي محاولة إنتقال ديمقراطي حقيقي في البلاد، فيجب على سياسيينا قراءة عميقة لبحوث الألمانية حنا آرندت حول جذور الشمولية وكيفية نشوء النظام النازي في ألمانيا .

ان معارضتنا ضعيفة سياسيا وثقافيا وعاجزة على الإستلهام من التجارب التاريخية لإحداث نقلة نوعية لأمتنا وشعبنا، فقد حاولنا أن نبحث تاريخيا عن ميلاد دساتير وتغييرات جذرية، فوجدنا الكثير من التجارب التي عرفت ثورات سياسية سلمية غيرت مجرى التاريخ إنطلاقا من برلمانات، ومن أبرزها الثورة الفرنسية في 1789 التي انطلقت من الجمعية الوطنية التي كانت مجرد غرفة تسجيل لما يصدره الملك من تشريعات وقوانين ومراسيم، وكانت تتشكل من ثلاث فئات حسب التقسيم الطبقي للمجتمع الفرنسي، فنجد ممثلين لرجال الدين وممثلين لطبقة النبلاء، وممثلين للعامة، والتي كانت الطبقة الدنية أو ما نسميه ب”الشعب الصغير” عندنا في الجزائر مقابل الطبقة المحظوظة عند السلطة، ويشبه هذا التقسيم تقريبا نفس التقسيم عندنا في البرلمان بين نواب الموالاة ونواب المعارضة.

فعندما عقدت هذه الجمعية الوطنية جلسة للمصادقة على قانون المالية الفرنسي في 1789، الذي وضع في ظرف أزمة مالية خانقة، فوقعت فوضى في هذه في الجمعية الوطنية، شبيهة بالفوضى التي وقعت عندنا عند المصادقة على قانون المالية لعام 2016، لكن أدى ذلك في فرنسا 1789 إلى قرارات غيرت مجرى الأحداث كلها، فطرح ممثلو طبقة العامة مسألة إدخال إصلاحات جذرية على النظام السياسي الفرنسي، لكن رفض الآخرون بسبب تضارب المصالح الطبقية، لكن أصر هؤلاء الممثلين على بقائهم داخل المجلس حتى التوصل إلى إصدار دستور ديمقراطي لفرنسا، ويغير ميكانيزمات النظام تغييرا جذريا، واستندوا في موقفهمن بأنهم يمثلون فعلا الشعب الفرنسي الذي يغلب عليه طبقة العامة، فتدخل الجيش، وطردوا من المجلس، لكنهم أنتقلوا إلى ملعب مجاور، فواصلوا الإجتماع، خاصة بإنضمام العديد من ممثلي الطبقتين الأخريين إليهم، فتوصلوا إلى هذا الدستور الفرنسي في 1789، ولقوا الدعم الشعبي التام، فكانت شرارة إحدى أكبر الثورات السياسية العالمية، وهي الثورة الفرنسية التي مازالت تلهم بأفكارها ودستورها ونموذجها الكثير من شعوب العالم إلى حد اليوم.

يمكن أن يتساءل أي كان  مالذي يمنع معارضتنا من القيام بنفس الشيء؟، فبدل مايتحدثون صباحا مساء منذ فترة طويلة بأن تنسيقية الإنتقال الديمقراطي، ستصدر دستورا بديلا لدستور السلطة، لكن لم نر أي شيء، فلو كانوا صادقين فعلا، ويمتلكون ثقافة سياسية، ويستلهمون من تجارب التاريخ، فهاهي تجربة الثورة الفرنسية أمامهم، فكان حريا عليهم بدل مقاطعة جلسة التصويت على الدستور أن يحضروا الجلسة، ثم يجتمعون، كما أجتمع ممثلو  طبقة العامة في فرنسا، ويتشاورون على إصدار دستور توافقي بديل، خاصة أنهم يقولون بأنهم يمثلون الشعب فعلا، وبأنهم لم يفوزوا في الإنتخابات بالتزوير على عكس نواب احزاب الموالاة، فإن كان كذلك، فماالذي يمنعهم من التحرك بجرأة وفرض دستور توافقي على السلطة والحديث بإسم الشعب الذي أنتخبهم؟.

فلنعترف أنها حتى هي طبقة سياسية مزورة في أغلبيتها، وما هي إلا نتاج ميكانيزمات فاسدة، فهي تجد نفسها جيدا في هذا النظام وميكانيزماته، وأكثر من هذا، فلم يكن هم الكثير منها إقامة نظام ديمقراطي حقيقي وفعلي، لأن نظام بهذا الشكل سيكنس الكثير منهم، وسيبرز طبقة سياسية جديدة قد طمستها هذه الميكانيزمات القائمة، فهم الكثير من هذه المعارضة هو التموقع داخل النظام ذاته والإستفادة من الريوع، طبعا لانلومها في ذلك، لأنها تعلم، أنها لو تقم بخطوات جريئة من أجل تغيير فعلين فإنها لن تجد الشعب وراءها، على عكس ما وقع أثناء الثورة الفرنسية أين كان الشعب الفرنسي على إستعداد لبناء نظام ديمقراطي جديد بحكم الثورة الفكرية التنويرية التي سبقت ذلك على يد مثقفين وفلاسفة ومفكرين تنويريين، وليس كما يقع عندنا حيث غياب تام للمثقف التنويري، وإن وجد توجهت ضده كل السهام، وتعرض لكل حملات التشويه من أناس يستغلون الجهل المقدس لشعبنا الذي يتغطى بلبوس الدين.

فلنفترض أن هؤلاء النواب المعارضين، كانت لهم الجرأة في وضع دستور توافقي، فمنذ البداية لن يتفقوا بسبب التجاذبات الأيديولوجية الحادة، خاصة في مسائل الهوية، وهذا ماتعرفه السلطة جيدا، ولهذا عند تشكل تنسيقية الإنتقال الديمقراطي، أكثرت السلطة من إصدار قوانين ومراسيم ونقاشات ذات طابع أيديلوجي وديني ولغوي، والتي لم تكن في الحقيقة وسيلة تلهية لشعبنا فقط، بل أيضا كسلاح تستخدمه لضرب أحزاب تنسيقية الإنتقال الديمقراطي بعضها ببعض، فتنفجر من الداخل بسبب نقاشات عقيمة، لأن الكثير لم يع بعد حقيقة مفاهيم الديمقراطية والمواطنة ودولة-الأمةن ولاتمتلك هذه الثقافة الديمقراطية والمواطنية، أن يجد كل المواطنين مكانتهم في الدولة، وتكون حقوق المواطنة كاملة دون أي نقصان مهما كان دينه أو لونه أو ثقافته أو لسانه وغيرها، ولغرس هذه الثقافة، نحتاج إلى عمل ثقافي جبار في مجتمعنا.

البروفسور رابح لونيسي

                                                                      – جامعة وهران-

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى