أعمدة الرأي

الحلّ بين ضمائر الخبراء وبطون (الهُبراء)

تقلبت المسألة الوطنية في أودية شتى، انتهت بأهلها الحال ما بين ليلة وضحاها إلى استكنان لمأوى، لطالما اشتبكوا في حبّه وبغضه مذ دوى الشعب في الشوارع مرددا عبارة(سبع سنين بركات)، ردا على صراعات الأجنحة في الستينيات . لكن المسألة الوطنية بقيت وفية (لخلطتها الجزائرية) التي تتنوع كيفيات صنعها ، فتختلف منتجاتها كاختلاف مناطق الوطن وتنوعها في إعداد طبق الكسكس رمز المائدة الجزائرية .

فالمسألة إذن تتجه لمخرجها الجزائري الذي طبعته سمة جوهرية منذ انطلاق ثورة التحرير 1954، وهي أن مؤسسة الجيش هي أقوى مؤثر منتج للفعل وتعدد أثاره التي تؤول في النهاية لتكون هي الواقع الذي يكتنف الحياة السياسية للبلاد.

يمكن وصف الحلول التي طُرحت للخروج من الأزمة على النحو الآتي ؛ الحلّ الذي بناه الحراك الشعبي من البدء إلى آخر مظاهرة، وهو الحلّ المطلبي الجماهيري الشعبي الواضح البسيط، المعبّر عن قوة غريزة الحياة في كنف قيم إنسانية وأخلاقية واجتماعية تليق بكرامة الفرد والمجتمع المتحضرين.

أما باقي الحلول فيمكن وسمها بصفتين رئستين مفسرتين لما انتظم من مقترحات وقراءات ومقاربات وحلول، أحدها حلول ( ضمائر الخبراء) والثاني حلول (بطون الهُبراء) . ونستعمل كلمة الضمير هنا لتعبر عن العقل والحكمة والنزاهة والصدق والالتزام بمنطق العلم . أما (الهبراء) فهم اللذين اندفعوا بغريزة وشهوة عارمة للهبر من لحم الثروة الوطنية الوفير المكتنز .

ولذا وجدنا بتتبع ما طرحته ضمائر الخبراء ينحو في معظمه، إلى الالتزام بالمخارج الدستورية الواضحة الإجراءات، فالاحتكام إليها يجعل البلاد في رعاية دستورية مهما يكان فيها من عوار، ومؤاخذات، ومطاعن على النص الدستوري، إجمالا والممارسات الخطيرة التي انتهكت عبرها السلطة الدستور في السنوات الأخيرة، وهذا الطرح يتسم بمجموعة من المميزات منها :

  • تعبيره عن احترام الوثيقة الأم للقانون في الجزائر .
  • سدّ الذريعة لمسألة السوابق في انتهاك الدستور عند أي أزمة مشابهة، بدعاوى كثيرة منها أن الدستور فقد شرعيته لانتهاكات السلطة التنفيذية له ، وبلغ التطرف لدى بعضهم إعلان موت الدستور .
  • أنه يوطن ثقافة احترام القانون مهما ضغطت علينا الظروف والمتغيرات، وهذا يورّث للأجيال قيمة التحرك اتفاقا أو اختلافا في كنف القوانين العليا الحاكمة للدولة والمجتمع .
  • حفظ المجتمع والدولة من الخضوع للضغوط بغض النّظر عن أنواعها وبواعثها وقوتها، التي تفضى بالجميع إلى تجنب سلوك الدُبّ الذي أراد دفع الذبابة عن صاحبه، فأجهز عليه .
  • القراءة الجامعة للنصوص الدستورية ذات الصلة ،المفضية لمخرج يناسب سياق الحالة المعقدة التي آلت إليها الأوضاع، وتحسّب المخاطر التي قد تنجم عنها، في حال بلوغها التعفن .
  • أن الاكتفاء بالحلول السياسية وحدها غير مجدى، وكذا الاكتفاء بالنصوص الدستورية دون تكييفها مع الوضع الخاص قد يصطدم بعراقيله والمفاجآت المُربكة ، بل والمهدد لاستمرار الدولة.
  • تفعيل قاعدة ارتكاب أخف الضررين ، وهي قاعدة في الفقه الإسلامي، من أرفع القواعد التي أنتجها الفكر القانوني عبر العصور؛ فأن تعالج معضلتك بحلّ مشوب بنقائص، أفضل من الاندفاع نحو حلول قد لا يكون الحال والوضع مهيئا لها؛ بفقده شروطا نفسية وثقافية وسياسية واجتماعية ضرورية.

ونورد هنا نموذجا أو اكثر معبرا عن هذا الاتجاه ، قالت الخبيرة الدستورية  فتيحة عبو 🙁 نفت بن عبو تعدي الجيش على صلاحيات المجلس الدستوري باقتراح تطبيق نص المادة 102، مؤكدة بأن قايد صالح التزم بحدود الاقتراح الذي لا يمكنه أن يعتبر تدخلا أو تعديا على صلاحيات المجلس.

و عن جدوى تطبيق المادة 102 ، أكدت فتيحة بن عبو بأن تطبيق الاقتراح من شأنه إخراج الجزائر من الأزمة، خاصة و أن الجزائر مقبلة في غضون أشهر على أزمة اقتصادية عميقة تتطلب سلطة تتمتع بشرعية شعبية قوية كفيلة باتخاذ القرارات الحاسمة لإخراج البلاد من الصعوبات التي تنتظرها) .(كل شيء عن الجزائر)، 26 مارس 2019  .

وفي حوار لها إثر رسالة الرئيس التي لقيت رفضا قاطعا ومعارضة شديدة ، قالت 🙁 عدم ترشح الرئيس وتأجيل الانتخابات رغم أنه غير دستوري وقانوني إلا أن فيه بعض الإيجابيات. لا يمكن الحصول على كل شيء دفعة واحدة، علينا أن نتعامل بمنطق خذ وطالب. لذلك، يجب مواصلة الضغط الشعبي وتقويته من أجل تسيير المرحلة الانتقالية بالطريقة التي تضمن الإصلاحات، ولا أعتقد أن بقاء الرئيس في منصبه بعد 16 أفريل (نهاية عهدته) سيكون مناسبا لتسيير هذه المرحلة). الخبر-12 مارس 2019

وفي تحليل لأحد الخبراء في القانون الدستوري، رغم أنه في مجموعه يمكن أن يكون تعبيرا عن صنف هجين بين الصنفين (الخبراء والهبراء)، وأمارات الارتباك والاختلال واضحة بقوة في مساهمته التي نقتبس منها النص الآتي* : ( ، نساند طرح أغلبية خبراء القانون الدستوري الجزائريين على غرار الأستاذة “فتيحة بن عبو “ذلك أن :”الحفاظ على البلاد الآن واستقرارها ووحدتها الوطنية أهم من أي شيء آخر، فلا مجال في المرحلة الحالية للدخول في مغامرات جديدة، خصوصًا مع ظهور مبادرات خطيرة تهدد التماسك الوطني، على رأسها الدعوة إلى مجلس تأسيسي، نظرا للخطورة التي يحملها، لهذا السبب على الشعب، على الأقل، الآن قبول اقتراح الفريق أحمد ڤايد صالح”، ولكن وفقًا للضمانات السالفة الذكر، فمبررات الرافضين لهذا الطرح تتمحور حول شخص رئيس مجلس الأمة ورئيس المجلس الدستوري والوزير الأول بالدرجة الأولى، لذلك نقترح استبدالهم بشخصيات محايدة كمؤشر إيجابي لتفاعل السلطة مع مطالب الحراك الشعبي) .

أما من أدرجناهم تحت وصف ( الهُبراء)* فمما تميزت به طروحاتهم :

  • نزعة (البوليتيك )، وهي النزعة والسلوك السياسي الذي يندفع اندفاعات هوجاء مع قوة وعتوّ الأزمات، يسابق الجميع إلى أشد المآلات تطرفا، والإيهام بالبطولة والثورية، والاصطفاف مع الجماهير والمظلومين .
  • اصطناع حالة ( راني مقفول ما نضويش وما نستعرف حتى بشيء). كأنما يهدف هذا الصنف إلى إضافة ملمح جديد (علامة فارقة ) للراديكالية .
  • هدم المعبد بدعوى التغيير الجذري دون مراعاة من يكونوا ضحاياه، وبالتأكيد فإنه يكون قد احتطا لنفسه بإعداد الملجأ المناسب الذي يقيه الهدم والركام ، والسبيل لذلك .
  • عرضُ بعضهم مؤهلاته السياسية أو العلمية ليُذكر مستقبلا عند من يؤول إليهم الأمر في البلد، فلا تزيغ أبصارهم عنه إلى غيره ممن هم يقينا أقل شأنا منه . وقد وقفنا على حالات كثيرة تعبر عن هذا الصنف، يصرح أصحابها أحيانا، ويقدمون بما يشيء بالمكنون حينا آخر ؛ فاللافت للنظر –مثلا- أننا لأول مرة تقريبا نجد بعض من كتبوا مساهمات قانونية كانوا يرفقونها ببيانات الاتصال بهم، بعد أن يوغلوا عبر معالجاتهم في ثلب النظام، والسلطة، بما يتماهى مع مطالب الشعب وتعبيراته الناقمة ؟!!!
  • النزعة النصوصية ؛ أو التظاهر بالتعلق الشديد بنصوص ؛ فيستميت أصحابها بإظهار التمسك بنصوص دستورية مثلا (المادة 07) ، التي هي في أصلها تعبير عن مبادئ عامة تأسيسية وربما من بديهيات الديمقراطية والدولة الحديثة التي لا تعنى شيئا إذ عدمت دعمها وشرحها بنصوص إجرائية تجسّد التعبير العملي والواقعي لها في الممارسة الميدانية .
  • الاستقواء بقوة الحراك الجماهيري، كأنما خولوا من قبله بالتحدث باسمه، والحراك لحد الساعة لم يفرز الهيئة الناطقة باسمه رسميا؛ لأنه ما زال فيما يبدو يتحاشى ما يتوقعه من مشكلات لهذه الخطوة .

لكن هل كلّ ما تقدم يعوق تشجيع اجتهادات تقديم الحلول؟ قطعا لا، فمن مظاهر الحيوية المطلوبة للتغير الهادف الحكيم، الترحيب بكلّ فكرة و اجتهاد ومحاولة لطرح ما يمكن إدراجه ضمن بناء تصور واقعي وعملي لحلّ يناسب المرحلة في سياقاتها ومعطياتها في كلّ جوانبها، صحيح أن الجانب السياسي يبدو أنه قطب الذي تدورحوله كل الجوانب الأخرى أمنية واقتصادية واجتماعية وغيرها . وعلى الرغم من أهمية وضرورة التنبيه على عمق حضاري يتوارى ضمن الأحداث، وهو قضية الهوية الوطنية في عناصرها الرئيسة ، والمرجعية التأسيسية للجمهورية المرتقبة أو لنقل المُدّعاة ، فإننا نفضّل تأجيل الخوض التفصيلي فيها إلى وقت آخر إن شاء الله . لكن نقدر أنّ من الضرورة بمكان الإشارة إلى الملاحظات الآتي ذكرها :

  • بروز مؤشرات تمهّد لنزعات عرقية، ولهجية، ولغوية، وعقائدية، يدل على هذا ما تعمل وسائل إعلام عديدة على إبرازه خاصة في العاصمة وبعض المدن الكبرى؛ نقصد : رفع راية تنسب للأمازيغية، ولسنا ندري مدى تعبيرها عن كل مكونات العنصر الأمازيغي في الجزائر، الراجح أنها يعوزها استغراقه، كما أنها تجابه في وسائل التواصل الاجتماعي بقدر من الاستنكار والتعبير عنه بوصف ساخر(الشوكة\الفرشيطة). و عدم التوقف عند هذا المظهر الذي ترافق راية (الفرشيطة) فيه العلم الوطني، لا يخلو من محاذير في هذه المرحلة الحساسة؛ لأسباب منها : انه استفزاز قد يكون صامتا في هذه المرحلة للمكون العرقي الوطني،، لكنه سيصرخ لا محالة مستقبلا . وقد بدت محاولة باهتة لكنها دالة من أحد هذه المكونات وهم أولاد نايل برفع راية يقول أصحابها ؛ إنها راية تعبيرية لهذا المكون الذي لا يقل أصالة عن كل مكونات الشعب الجزائري! – أن المشجعين والمروجين لهذا السلوك يرسلون رسالة للجميع مفادها أن فصيلا لمكون عرقي ما هو مركز الحراك، وقطبه رحاه –أن مسألة الدولة الفيدرالية لا تزال تحوم في سماء البلاد، وقد نشط تداولها في سياق تحركات معينة ، وتقاذف التهمة أطراف معينة،ومعلوم أن مثل هذه المشروعات الكبرى تتخير أو يُتخير لها أفضل الظروف التي تصرف الاهتمام بها قدر المستطاع، وتتمكن من العمل في ظروف مريحة – أنها تساهم في تمديد أحد أسباب التي ساهمت ولا تزال تساهم في تعقيدات المسألة الوطنية، منذ بزوغ النزعة البربرية في الحركية الوطنية قبل الثروة المظفرة. وتعبيرا عن مدى الانتشاء باللحظة وإنجازها يصرح سعيد سعدي أحد عرابي النزعة البربرية التعيسة : ( العلم الأمازيغي يرفرف مع الراية الوطنية، إنه ميلاد أمة موحدة وجديدة)، بالطبع هذا استغباء للعقول ؛ كيف يكون تعدد الرايات رمز وحدة؟!
  • تخير عناصر شابة (خاصة الفتيات) للرأي العام من بين جماهير الحراك، تفضل التحدث بالفرنسية بمستوى رفيع، وبمواصفات حداثية ، كأنما يُراد من هذا الرسائل الإعلامية أن تحصر الحداثة في مظهرها التغريبي المتفرنس ! مع التقليل قدر الوسع من تقديم والتركيز على مواطنين يعكسون قدرا من الأصالة والوطنية شكلا ولسانا، ويقينا الإعراض عن المكون الجماهيري الذي يعكس التزاما إسلاميا شكلا ومضمونا !
  • تسريبات حول محاولة استبدال (ميثاق مؤتمر الصومام) ببيان أول نوفمبر، والحقيقة التاريخية الصلبة تؤكد أن الإجماع الوطني منعقد على الثانية، وان الأولى  كانت أحد أسباب التنازع بين الولايات وقادة الثورة، ولا تزال تثير من الجدل حول خلفيتها الأيديولوجية ما يجعل وضعها الطبيعي في أي تخطيط استراتيجي لمستقبل البلد أن تُحفظ بوصفها إحدى وثائق الثورة التاريخية، و لا ترقى لمنازعة بيان أول نوفمبر، او مطاولته قامة وقدرا؛ إنه وثيقة الميلاد الحقيقية للدولة الجزائرية ، والوثيقة المعبرة عن هوية وروح وعمق المجتمع الجزائري، من حقها علينا امتداد إلهامها للأجيال عبر تاريخ الوطن .

عود لمسألة الحلّ أعتقد من موقع المواطن المساهم في الحلول ، أن الوعاء السياسي وربما الوعاء الاجتماعي أخذ ينحو منحى الخطوات التقاربية القائمة على مبادئ الحوار والقبول بصياغة إجراءات عملية للتقدم خطوات لتجاوز ما يمكن تجاوزه بحكمة في هذه المرحلة ، على ضوء قدر من الالتفاف حول المواد الدستورية 07و08و102، في جوّ حالة من التوجس الشديد من تورط أطراف صانعة للأزمة ومتهمة، بالاستيلاء على مؤسسة دستورية كبرى في البلد، بالضلوع في مخططات في غاية الخطورة. و إضافة لما طرحه كثير من الخبراء والسياسيين من إمكان تجاوز عقبة (عبد القادر بن صالح ) باستقالته ، ثم انتخاب شخصية  مقبولة نسبيا من كل الأطراف ، نعيد ما عبرنا عنه في مقالات سابقة من ضرورة هيئة إعداد و إشراف على انتخابات رئاسية في أقرب الآجال . ويقيني أن خروجنا في المرحلة الأولى الحرجة جدا، برئيس منتخب انتخابا حرّا ونزيها سيجعل البلد في حالة من الراحة والوسع؛ كي تتجه الأمور نحو اتخاذ اللازم من الإجراءات الكبرى للمؤسسات الدستورية التي  ستكون حجر التأسيس لدولة الجديدة .

ونشير هنا أيضا إلى أن الحراك ينبغي أن يبحث له صيغة ما لتمثيله أو تفويض من يمثله على الأقل في هذه المرحلة التي تُعِدُّ للخطوات الأولى للمخرج الحكيم؛ فقد لا يكون من الحكمة الاستمرار في حالة ( الكتلة الخام) التي تصنع الحدث، وتفرض البدائل دون أن يكون لها تمثيل بطريقة ما .

كما أكرر مسألة (العقد الاجتماعي)؛ إذ كلّ المعطيات التي أفرزتها المحطات الكبرى في مسارنا الوطني بإيجابياتها وسلبياتها، تدعونا للتفكير بجدّ في فتح النقاش المسؤول حول هذه الفكرة؛ لأنّه سيكون بمثابة المبادئ الرئيسة المؤسسة لمرحلة جديدة في البناء الوطني على أسس ومبادئ معبرة عن طموح مجتمع للتقدم والازدهار، في كنف الاستقرار والقيم العريقة المتجذرة في روح وضمير المجتمع، وعناصر شخصيته الثرية بتنوعها.

نسأل الله التوفيق والسداد

الهبر: قطع اللحم. والهَبْرَةُ بضعة من اللحم.(لسان العرب) وغيره .

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى