أعمدة الرأي

النوبة الإقفارية.. في اللغة

اللغة، أيا كانت هذه اللغة، لا ينبغي أن يُحمّلها المُولعون بها وبشاعريتها وشعريتها، عواطفهم في اتجاه لا تقبله اللغة ككيان تواصلي، ولا ينبغي أن تكون هذه اللغة طرفا في مقاضاة طرف ما بأحكام لغوية، وقيمية، مؤسسة على أحكام مسبقة، ناتجة عن أحادية اللغة والرؤية بعين واحدة، أو قادمة توا من عوالم نرجسية ترفض رؤية الواقع، حتى وهي تطالب بالتغيير.. !

إنها النوبة الإقفارية.. في اللغة! في بلادي، اللغة ليست أداة تواصل في الحوار والنقاش، ولا تراها النخبة (المشطورة نصفين على الأقل إيديولوجيا ولغويا واتصاليا) عنصرا من عناصر التطور ولا تبحث في تلقيمها بمصطلحات وكلمات جديدة، تساير العصر والأوان، مثلما يحدث في عالم الثمانية (g8). اللغة في بلادي أُدخلت رُغم انفها في دهاليز تموقعات لم يجني منها الناس غير “السونساسيونال” إعلاميا، وخيبات الأمل معرفيا، وحروب على شاكلة داحس والغبراء، كل بما لديهم فرحون..

زمن الولاء للغة والتصانيف اللصيقة بها (مفرنسون-معربون، تغريبيون-أصوليون، متدينون-لائكيون، وغيرها) لم ينته، بل التركيز على الولاءات اللغوية التي أنتجت من حيث لا تدري ولاءات سياسية، بخلفيات صراعية (وهمية في الغالب).. أوصل الفريقين إلى حالات تشنج عقيمة، وبُني جدار برلين “لغوي” وسوسيولوجي وسياسي، وفُرض حضر تجول بين الفريقين، لا هذا يقترب من محراب ذاك، ولا الثاني يستسيغ شكل و”منطق” وطريقة عيش الأول، ولا طرف يحاول مسح “ثقافة حقد تاريخية” توارثتها الأجيال المتعلمة دون ان تفكر لحظة واحدة في وضع بعض النقاط اللغوية على مواقف إيديولوجية، يحدثنا التاريخ أنها راسخة في تاريخ الجزائر المعاصرة، حتى لما حاولت نخبة من أبنائها رسم طريق إلى الاستقلال، وجدنا من يطرح لعنة التصنيف اللغوي والاثني والسوسيولوجي بخلفية سياسية إقصائية في كلمتين: “الأزمة البربرية”، سنة 1947..

وما زالت تداعيات لاوعي معرفي، تنخر جسد الحوار الحضاري بين المكونات اللغوية والاثنية والسوسيولوجية، منذ ذلك الوقت، مع دخول عامل الهوية على الخط، وتموقعه على يمين اللغة كعنصر داعم وضاغط للحصول على اعتراف من “الطرف الآخر”، مع أن الحركة الوطنية أذابت جليدا كبيرا لعبت عليه فرنسا الاستعمارية، وبخبث كبير، تدخلت في مفاصل وتمفصلات المجتمع وصيرته “أهالي-أنديجان”، كتصنيف سوسيو-سياسي، من الدرجة الثالثة، بعد، الفرنسيين والكولون من مختلف المشارب.. و”عرب” وقبايل” و”شاوية”، بتأثير كبير من بيار بورديو، الذي نظّر لأخطر التصانيف القاتلة عن المجتمع الجزائري في كتابه (Sociologie d’Algerie)، وآخرون عملوا على زرع فتنة لسانية-لغوية في البلاد، بالتركيز على اللغة والهوية المُلصقة بها، وبشكل هذا وذاك، وبطريقة أخبث مما فعلته مكاتب استعلامات الجيش الفرنسي “بال 2″، “بال 5” وغيرهما..

بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، ما زالت التصانيف الغارقة في “مَشكَلة الهوية”، والتعامل غير الندي باللغة (من التعليم الابتدائي إلى الجامعة)، والتعالي الإيديولوجي باللغة، تُحرك خيوط صدامات ومناوشات، وتحيي حالات استقطاب وتجييش، كالتي حدثت بين عثمان سعدي، حامل راية العروبة والتعريب في الثمانينات خصوصا، والمفرنسين و”الفرانكوش” و”الطابور الخامس”، ومثل التي وقعت قبل ذلك بين فريق مصطفى الأشرف ونادي الترقي.. إلى أن أوصل التشبث بـ”اللغة-الهوية” إلى خلق خندق سياسي، لا يجد حرجا في قول طرف فيه إلى طرف آخر: “ياخي معربز”، “ياخي إسلاميست”، “هؤلاء أصوليون”.. وفي الجهة الأخرى نجد: “خونة”، “عبيد فرانسا”، “فرانكوفيليين” (هذا تقسيم لغوي-سياسي- ولائي، يعود إلى اربعينيات القرن الماضي وفيه: فراكوفيلي، صاحبه يحب فرنسا قلبا وقالبا، ولاء لغوي وسياسي، وفرانكوفون، ناطق باللغة الفرنسية، وهذبت الكلمة بعد الاستقلال إلى مفرنس، لكن بدلالة سياسية توظف في اتجاه “فرانكوفيلي” عادة، وفرانكوفوب، وهو المعقد من اللغة الفرنسية، ويُقصد به عادة في التصنيف الفرنسي أصلا: المعرب أو الأصولي نسبة إلى التعليم الأصلي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين). وزادت وتيرة تداعيات كل هذا وغيره، من منظور جزائري راسخ في المخيال الجمعي، في “مواجهات إعلامية”، لا تناقش أصل “المشكلة” بقدر ما تُضخم جدار برلين بين أبناء الشعب الواحد، بـ”اللغة والهوية” دائما، وباستعمال مزيج انفجاري بينهما، متى عادت ثقافة حقد تاريخية تركها الاستعمار الفرنسي، في نفوس الجزائريين، لا عقولهم، ومن حيث لا يدرون يطيلون عمر “أزمة هوية”، توظف بشكل مقزز، ويستفيد منها المولعون بحروب الطواحين على الطريقة الدونكيشوتية..

“خنثى مشكل” التي عبّر عنها الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم، قبل 30 سنة، عندما طُرحت عليه مسألة تقاتل المعربين والمفرنسين، (في التعليم والإدارة، في ذلك الوقت من باب غلبة اللغة الفرنسية في المراسلات والمحررات الإدارية)، باقية، تُثير حنينا غريبا في قتال الإخوة-الفرقاء، على “تركة مسمومة”، إلى درجة أن بعض المثقفين لا يرون حلا لهذه المعضلة إلا بمصالحة وطنية لغوية-لسانية، تُسقط من النفوس حالة التجييش غير العادية، وتُوصل النرجسية اللغوية إلى مرفأ: اللغة ليست تركة حرب، ولا هي وسيلة حرب،، اللغة في نهاية المطاف جسر كبير نحو العلوم والثقافات والحضارة.. ووسيلة جيدة لإذابة جليد مصطنع بين من يفكرون ويكتبون من اليمين إلى اليسار وبين من يفكرون ويكتبون من اليسار إلى اليمين.

ملاحظة: لماذا لم تسرب مادة التربية الإسلامية واللغة العربية في “بكالوريا 2016”..؟

متعلقات

زر الذهاب إلى الأعلى