أعمدة الرأي

رد شعب على تصريحات وزير

عرفت التصريحات الأخيرة لوزير التعليم العالي التي فهمت بأنها ضد النبوغ والذكاء والنخب العلمية رد فعل شعبي كبير، خاصة في مواقع التواصل الإجتماعي، وهو ما يدل على مدى وعي شعبنا بكل شرائحه وفئاته بأن الطريق الوحيد لخروجه من التخلف وتحقيق رقي الجزائر هو العلم والتكنولوجيا، فهو مستعد للتنازل عن قوت يومه من أجل دعم البحث العلمي والتكنولوجي في بلادنا.

تدفعنا هذه التصريحات إلى طرح عدة تساؤلات حول التمييع الذي تعرفه الجامعة منذ سنوات بسبب بكالوريا سياسوية، وكأننا بصدد إنشاء جامعات شعبية ضعيفة المستوى مقابل إرسال المسؤولين الكبار والأوليغارشية المالية أبناءهم إلى أرقى الجامعات العالمية لمواصلة الدراسة، ليعودوا فيما بعد كي يرثوا أباءهم في السلطة، فضعف طلبة جامعات اليوم تعود جذورها إلى ضعف التعليم القاعدي والأساسي، فأي تطوير تعليمي جامعي يجب أن يبدأ من الإبتدائي.

تدفعنا هذه التصريحات أيضا إلى التساؤل عن المسؤول على القضاء على الثانويات التقنية الثلاث (العاصمة ووهران ودلس ببومرداس) التي كانت بمثابة ثانويات نخبة في ستينيات وسبعينيات القرن 20، حيث يرسل إليها أحس طلبة التكميليات آنذاك بهدف تشكيل نخبة علمية وتكنولوجيا تخدم السياسة الصناعية التي شرع فيها الرئيس بومدين، ويشرفني أنني كنت طالبا في فرع تقني رياضيات في إحدى هذه الثانويات في أواخر سبعينيات القرن 20، لكن التخلي عن سياسة بومدين الصناعية أهدر مستقبل الكثير من هؤلاء الطلبة النجباء الذين كانوا  زبدة المجتمع آنذاك، ونشير أن اليوم هناك مدراس أشبال الأمة العسكرية التي تضم أنجب التلاميذ أيضا، لكنها موجهة للمجال العسكري، فما يمنعنا من إنشاء مدراس وثانويات مماثلة لها وموجهة للمجالات المدنية.

لاحظ الجميع كيف ضاع أمل طلبة نجباء أختاروا المدارس العليا أو آخرون أختاروا شعبا تتطلب أعلى المعدلات، وبعد سنوات من الدراسة يتم إصدار قوانين وقرارات تحطم أمل هؤلاء ومستقبلهم، أليس ذلك وسيلة لتوريط هؤلاء الطلبة النجباء ثم تحطيم مستقبلهم بكل برودة دم؟.

إن هذه التصريحات وردود الفعل تدفعنا إلى إعادة طرح مسألة البحث العلمي والتكنولوجي في بلادنا، فعند كل دخول جامعي، يعود الحديث عن الجامعة والبحث العلمي ومدى أهميته معتقدين أنه يكفينا تدشين هياكل جديدة وضخ المخابر والمؤسسات البحثية بأموال أخرى كافية لحل مشكلة البحث العلمي عندنا، لكنه في الحقيقة ما هو إلا ذر للرماد في العيون، فلن نحل المشكلة إطلاقا مالم نعيد طرح قيمة العلم في مجتمعنا، ومالم نفكربجدية في ميكانيزمات لوضعها في المكانة الأولى ضمن القيم، ومالم نع بأنها ستزداد إنحدارا مادام أن الترقية والصعود الإجتماعي في بلدنا ليس العلم بل السلطة والحصول على المناصب السياسية والإدارية التي عادة ماتوصل إلى الثروة بأشكال ملتوية ومشبوهة، أما العلم فهو آخر الإهتمامات عندنا بسبب غياب الوعي بالتحولات الكبرى في العالم والأنانية المفرطة لسلطة تخشى الفكر والثقافة النقدية والعلم منذ إسترجاع الإستقلال، ولاتبحث عن المثقفين والكفاءات العلمية إلا لتوظيفهم في عمليتي تبرير وتنفيذ قراراتها  التي تضع مصلحتها قبل مصلحة الدولة والأمة.

فمنذ 1962 استندت الجزائر على إقتصاد ريعي مبني على الطاقة، وعجزت في تحويله إلى إقتصاد منتج، ويبدو أنه حتى الإعتماد على الطاقة سيصبح مستحيلا، وهذا ليس فقط لنضوبها بل لأن هناك تحولات إقتصادية كبرى في عالمنا اليوم حيث هناك إنهيار للقاعدة الإقتصادية الكلاسيكية القائلة بأن رأس المال والمواد الأولية والأيدي العاملة هي المصادر الأساسية للإنتاج الإقتصادي.

فالإقتصاد العالمي اليوم في تحول من المادية إلى اللامادية، وأصبحت المعرفة والعلم إضافة إلى العمل والإنضباط هي العوامل الأساسية والحاسمة في بناء القوة الاقتصادية لأي بلد كان، فاليابان مثلا التي تعد قوة إقتصادية لاتمتلك أي شيء بإستثناء قوة المعرفة والعلم فقط .

إن هذه الحقائق تدفعنا اليوم إلى التفكير في حل جذري لمشكلة التخلف العلمي عندنا إذا أردنا أن نحجز لنا مكانة في عالم المستقبل، وذلك بوضع الميكانيزمات والحلول الواقعية والعملية لحل هذه المشكلة.

نعتقد أن الحل الجذري لهذه المشكلة يبدأ من إعادة النظر في ميكانيزمات الترقية والصعود الاجتماعي، فيكون أساسها الرئيسي العلم والمعرفة، وهو مايتطلب بناء مجتمعا طبقيا جديدا، لكنه إيجابي وليس سلبي مدمر كما هو حاصل اليوم، طبقية ليست مبنية على الثروة والسلطة بل مبنية على العلم والمعرفة عكس النظام الرأسمالي المبني على طبقية الثروة والملكية، وكذلك النظام الشيوعي الذي رغم نفيه للطبقية في مجتمعه وإنكاره لها، إلا أن أحاديته وإستبداده أنتج لنا طبقية أكثر بشاعة تتمثل في سيادة برجوازية بيروقراطية متمثلة في رجال السلطة الذين استغلوا مناصبهم فوصلوا إلى الثروة، وهو ماوقع في بلادنا منذ عهد الأحادية.

فهذه الطبقة التي هي وليدة الإستبداد مدمرة للإقتصاد والمجتمع لأنها لآتمتلك ذهنيات وممارسات البرجوازية في الغرب التي أستثمرت في القطاعات المنتجة والبحث العلمي، ولعبت دورا أساسيا في بناء إقتصاد دولها، أما برجوازيتنا البيروقراطية فماهي إلا كمبرادورا- أي خادمة للإقتصاد الغربي كوسيط لإستيراد وتسويق منتجات الرأسمالية الغربية-، وهو ما تطلب منها تدمير الإنتاج الوطني وعرقلة ظهور برجوازية وطنية منتجة تقيم المصانع وتخلق الثروة ومناصب الشغل، فكرست هذه الطبقة البرجوازية البيروقراطية التخلف أكثر، مما يتطلب منا اليوم نظاما وميكانيزمات جديدة تقطع الإرتباطات السلبية بين هذه الطبقة والرأسمالية العالمية ثم تحويلها إلى الإستثمار في الإقتصاد المنتج والبحث العلمي بدل إستيرادها لكل السلع بمافيها الممكن إنتاجها محليا.

ولحل مشكلة التخلف في الجزائر يجب أن نحول العلم والمعرفة المقياس الرئيس للامتيازات في المجتمع، وليس السلطة ومقاييس أخرى، علينا التفكير في وضع الميكانيزمات الملائمة لتطبيق هذا المبدأ الذي سيتحول محفزا على طلب العلم والبحث العلمي الجاد والتنافس من أجل الإبداع العلمي والتكنولوجي لأنه هو الطريق الرئيسي للصعود الاجتماعي، وهو المبدأ الذي سيجعل الطفل يلد وهمه وهم والديه النجاح في التعليم الذي سيسمح له بولوج عالم الباحثين العلميين، لعله سيفتح له الطريق ليصبح مخترعا ومبدعا علميا، مما سيدر عليه إمتيازات عدة، وتجعله من الطبقة العليا في المجتمع، وبذلك نكون قد وضعنا بذور التقدم بدل هذا التكالب المدمر من أجل الثروة والسلطة.

فإن لم نسارع إلى إعادة النظر في نظامنا السياسي والإجتماعي بتطعيمه بميكانيزمات جديدة تسمح بإعادة الإعتبار لقيمة العلم والبحث العلمي وممارسيه والقائمين عليه، فإننا سنضيع قرونا وقرونا على أمتنا.

فحتى في الغرب الرأسمالي اليوم يتحدثون عن طبقة جديدة بدأت في الصعود، وتأخذ تدريجيا مكان الطبقة البرجوازية، وسماها إيف لكرك “طبقة المثقفين”، لكن بمفهومها الواسع، وتتمثل في مستخدمي الفكر في عملهم ويسيطرون على المعلوماتية، إلا أنها في الغرب تتشكل من أبناء الطبقة البرجوازية السائدة.

فقد أدركت الطبقة البرجوازية في الغرب أن نظامها مهدد من قبل هذه الطبقة الجديدة المتمثلة في العلماء والباحثين والمثقفين والمفكرين، خاصة بعد ما نبه عالم المستقبليات ألفين توفلر في تسعينيات القرن20 أن الثورات القادمة لن تكون ثورات المحرومين والبروليتاريا، بل هي ثورات هذه الطبقة الجديدة، ولهذا سعت الطبقات الرأسمالية في أمريكا إلى إحتواء هذه الطبقة الجديدة، فأنشأت مراكز الدراسات الإستراتيجية التي تضم باحثين كبارا كمؤسسات روكفللر وفورد وراند وغيرها، واستهدفوا بها إحتواء المثقفين والمفكرين والباحثين العلميين الرافضين للكثير من القيم والممارسات الرأسمالية وإعطائهم المجال المناسب لإبراز كفاءاتهم العلمية مقابل أجور باهظة لتطويق احتمالات تمردهم وتأثيرهم في المجتمعات الغربية، وأستهدفوا أيضا التأثير على صناع القرار لخدمة مصالحهم من خلال تقارير وأبحاث هذه المراكز.

وهوما يدفعنا إلى التساؤل: فهل ستأخذ هذه الطبقة التي تحدث عنها لكلرك وتوفلير وغيرهم السلطة في بلداننا بالثورة إذا لم نستبق الأحداث، خاصة وأن هذه الطبقة في بلداننا هي من الشرائح الأكثر حرمانا في المجتمع رغم علمها وثقافتها، وبإمكانها أيضا أن تجر وراءها كل محرومي المجتمع خاصة الذين يسميهم لنين وهربرت ماركوز في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد) بذوي الياقات البيضاء، أي الذين يشتغلون بالفكر كالمهندسين والفنيين والأطباء والأساتذة بالإضافة إلى الطلبة؟، لكن يبدو في الظاهر اليوم أن البعض من هؤلاء تغلب عليهم الإنتهازية ومكتفية بالمناصب التنفيذية والفتات من الريع الذي يعطى لهم مقابل عدم تقديم أي خدمات إيجابية للمجتمع تخرجها من تخلفها، وهو مايمكن أن يؤثر سلبا على علاقتها بالشرائح الإجتماعية الأخرى.

في الحقيقة ان مختلف شرائح المجتمع لاتقف ضد طبقة العلماء والمفكرين إذا  لم تنفصل عنها، ولأن هذه الشرائح أيضا واعية بأن أحد أسباب مآسيها هو التخلف العلمي، ولا يمكن تحسين أوضاعها إلا بالتقدم العلمي الذي لا يمكن أن يكون إلا بجعل الإبداع العلمي والمعرفة وسيلة للصعود الاجتماعي.

ليس من الصعب إعطاء إمتيازات للمخترعين والمبدعين في المجالات العلمية كما أعطيت لبعض رجالات السلطة، بل يمكن حتى خلق رتبة أو وسام مواطنة عالية نسميها “المواطن الممتاز” أو أي تسمية أخرى لكل من ينجز إختراعا وإبداعا علميا يخدم مجتمعنا ويطوره، ولهذا سيكون كل مواطن همه تحقيق هذه الرتبة المفتوحة للجميع، وتتكافأ فيها الفرص، ولايمكن لأي كان أن يغش فيها لأن إختراعاته وإكتشافاته وإبداعاته هي التي تتكلم، فإن الجزائر في أمس الحاجة اليوم إلى من يرقيها ويطورها ويبنيها بعقله وعلمه وإختراعاته وإبداعاته العلمية، وهل من الصعب وضع ميكانيزمات لجلب كبار الباحثين العالميين إلى الجزائر وتحويلها إلى قبلة لهم، فلنتحول إلى دولة ديمقراطية وإجتماعية وعلمية تستند فقط على العلم، ويكون فيها لرجال العلم والفكر والعقول الكبرى دورا أساسيا في القرارات وصياغة مستقبلنا، نعتقد أن تحقيق ذلك ليس صعبا كما يوهموننا البعض، ونعرف أن فكرة كهذه سيضع الفاشلون المقتاتون والمستفيدون من النظام الإجتماعي والسياسي الحالي كل العراقيل في وجهها، وسيصفونها بالطوباوية وصعوبة التنفيذ، لكن هي في الحقيقة لا تحتاج إلا إلى إرادة سياسية وثورة في الذهنيات والتفكير في ميكانيزمات جديدة لتطبيق هذا المبدأ ومجموعة قوانين ومراسيم تنفيذية لها، والتي ستلقى الدعم من كل المجتمع لأنه يعلم أن تحسين حياته وترقيته وتطوير الجزائر لا تتم إلا بالبحث العلمي الجاد المرتبط بحاجاتنا التنموية الإقتصادية والإجتماعية.

نعتقد ان على النظام تبني طرح تشجيع البحث العلمي بقرارات شجاعة كالتي طرحناها في مقالتنا هذه إن اراد للجزائر فعلا الرقي والتقدم وإبعاد تهمة محاربته البحث العلمي والتكنولوجي والنبوغ والذكاء التي يتحدث عنها المجتمع بقوة، فلنرفع كلنا شعار “رقي الجزائر مرتبط بتشجيع المبدعين في مجالات العلوم والتكنولوجيا”.

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى