أعمدة الرأي

زلزال إصلاحات بوتفليقة في الطريق..

تصاعدت وتيرة التحرّش بالسيد السّعيد بوتفليقة شقيق رئيس الجمهورية، مؤخرا، مع تسارع وتيرة التغييرات الكبيرة التي باشر في تجسيدها الرئيس بوتفليقة، والتي طالت عديد المؤسسات المدنية والعسكرية، فالبعض أصبح يتهم السعيد بوتفليقة بأنه هو الذي يقف وراء حركة التغييرات هذه، بإيعاز من فرنسا، بغرض تحضير الأرضية لخلافة أخيه، باعتباره أقوى رجل في السلطة في الوقت الرّاهن، وهذا الكلام وللأسف، تردّد على ألسنة العديد من السياسيين والإعلاميين، الذين تولّى العديد منهم مناصب مُتقدمة في هرم السلطة في الجزائر، واليوم بدأوا يرفعون أصواتهم التي ظلّت خافتة طوال السنوات التي كانوا فيها يتمتعون بمزايا السلطة وإكراميّاتها.

بصراحة، أرى أنّ هذا السيناريو الذي تعتمده هذه الجهات، إنّما يعكس جهلا بتاريخ الجزائر، أو أنه يستهدف بشكل مُباشر تشويه الحقائق التاريخية التي أنتجت النظام السياسي الجزائري القائم إلى يومنا هذا، وأقول ذلك لأنّ هذه الأصوات التي تُهاجم شقيق بوتفليقة اليوم، لم تجرؤ أبدا على انتقاد دور جنرالات فرنسا في الجزائر، الذين حاصروا غالبية الرؤساء الذين جيءَ بهم بعد الراحل هواري بومدين، بدءا بالرئيس الشاذلي بن جديد، مرورا بعلي كافي وبوضياف، فزروال الذي أجبره جنرالات فرنسا على تقليص عهدته الرئاسية، وتنظيم انتخابات مسبقة فاز بها الرئيس بوتفليقة، قلت لم يجرؤوا على انتقاد دور جنرالات وضباط فرنسا في الجزائر، والذين ساهموا بشكل مباشر في إقحام الجزائر في أخطر الأزمات التي عاشتها منذ الإستقلال وإلى يومنا هذا، ويكفي أن نُذكّر بأن أزمة توقيف المسار الإنتخابي الذي فازت به الجبهة الإسلامية للإنقاد المُحلّة “الفيس”، كانت في وقت ترأس فيه ضابط سابق في الجيش الفرنسي الإستعماري، قيادة أركان الجيش الوطني الشعبي الجزائري، ومن المُفارقات الغريبة، أن أول رئيس دولة أجنبي، إنتقد توقيف هذا المسار، كان هو الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران، الذي قادَ حملة حصار الجزائر إقليميا ودوليا، فهل يُعقل أن يقوم رئيس فرنسي بحجم ميتيران، باختلاق أزمة مع الجزائر في وقت كانت الكلمة العليا فيها لضباط فرنسا الإستعمارية؟ بل وأكثر من ذلك، هل من المُستساغ أن تُعارض فرنسا ما قام به جنرالاتها في الجزائر آنذاك؟

الأكيد والمُؤكّد، أن ما حصل، كان في إطار استراتيجية فرنسية لتأزيم أوضاع الجزائر بل ولتدميرها، بمساعدة أبنائها في السلطة الجزائرية، وبرغم ذلك لم نسمع أي تنديد بالدور الفرنسي المشبوه، سواء من “الفيس” أو أحزاب المُعارضة، وهذا ما يجعلنا اليوم، نطرح العديد من التساؤلات حول مرامي وأهداف الحملة على الرئيس بوتفليقة ومن ورائه شقيقه السعيد، فإذا كان البعض اليوم يتهم شقيق الرئيس بوتفليقة بالهيمنة على صنع القرار في الجزائر، فيحقّ لنا أن نسأله عن موقفه لمّا كان السفير الامريكي في الجزائر، إبّان العهدة الأخيرة للرئيس الشاذلي بن جديد، يدخل إلى قصر المُرادية من الباب المُخصص حصريّا لرئيس الجمهورية؟

قد لا يفقه البعض ما أقصده هنا، ولذا أقول إنّ الشاذلي بن جديد، قد حاول فعلا التخلّص من هيمنة الفرنسيين، بالإرتماء في أحضان الأمريكيين، لكنه لم ينجح وللأسف، بل إن سياسته هذه، هي ما جعل فرنسا تنتقم من الجزائر بإغراقها في أزمة الفيس، وما تلى ذلك من مأساة وطنية لا نزال نعيش تبعاتها إلى يومنا هذا.

في خضم كلّ هذه الصراعات الداخلية والخارجية، التي تفاقمت بفعل صراعاتنا الموروثة منذ ما قبل الإستقلال، كان موعد الرئيس بوتفليقة مع تقلّد زمام السلطة، أو بالأحرى بعض أجزاء السلطة في الجزائر، والحقيقة تُقال، أنه ورث دولة مهزوزة ومُترهّلة للغاية، وفي الوقت نفسه كان غالبية الجزائريين يُطالبونه بتغيير جذري لأوضاع البلاد، والرجل أي بوتفليقة، ما كان له أن يُحدث أي تغيير في أوضاع الجزائر دُونما الرجوع إلى تخليص البلاد من موروث الصراع الذي استمرّ منذ ما قبل استقلال الجزائر، وهنا أستحضر شهادات والدي رحمه الله “سي الميلود حبيبي” القائد الثوري، الذي وجد نفسه بعد الإستقلال مُجبرا على حمل السلاح من جديد، واللجوء إلى جبال بني شقران بمعسكر، لرفضه تولّي ضباط فرنسا مسؤولية الجيش الجزائري المُستقل، ورفضه لتصفية الضباط الحقيقيين للثورة، والتي كان هو نفسُه، مُبرمجا فيها قبل الإستقلال وبعده، هؤلاء الضبّاط الذين أتى بهم هواري بومدين، لخلق بعض التوازن ضدّ الطبيعة والتاريخ، باعتبار أن كل جهة في الجزائر قدّمت تضحياتها للوصول إلى الإستقلال، قُلت إن هواري بومدين كان يصبو إلى تحقيق توازنه هو لا غير، بين الجبهة الشرقية للثورة في “غارديماوو”، والجبهة الغربية للثورة في مركز بن مهيدي الذي كان يقوده، فبومدين كان همّه الوحيد هو السيطرة على السلطة، وهو ما عارضه فيه غالبية قيادات الثورة في الجهة الغربية، بمن فيهم والدي رحمه الله، ليقينهم أنّ هذا الصراع ستكون له آثاره ونتائجه المُستمرة التي نعيشها وللأسف حاليا، فبومدين وبرغم نواياه الحسنة، ومن خلال جهاز مخابرات الثورة آنذاك “المالغ”، أعدم العديد من ضباط جيش التحرير الوطني، بالتنسيق مع العقيد بوصوف، ومن لم يُعدمه، همّشه إلى غاية وفاته، ولن أسرد هنا أسماء الضحايا، لأن المقام لا يسمح بذلك، وباختصار، فإن بومدين قد احتكر السلطة بشكل كامل، الأمر الذي أجّل الحسم في أمّهات القضايا والأزمات، إلى غاية وفاته، بل بالعكس من ذلك أن تداعيات هذا الصراع الخفيّ، بلغت مُنحنيات خطيرة للغاية، مع تفرّد ضباط الجيش الفرنسي الذين استقدمهم هواري بومدين، بعد وفاته، بصُنع القرارات السيادية في الجزائر ولعقود من الزمن، وفي ظلّ ذلك كلّه، أراد الجزائريون، أن يُحدث الرئيس بوتفليقة تغييرا جذريا وسريعا!؟

برأيي، أنه بمُجرّد أن إنطلق بوتفليقة في تكسير “الجدار”، وتخليص الجزائر من هيمنة ضباط الجيش الفرنسي في الجزائر وأتباعهم وحلفائهم، وتخليص الجزائر من تبعات الصراع التاريخي بين الجبهتين الشرقية والغربية للثورة التحريرية المجيدة، سنكون وبالتأكيد، مع موعد جديد، تكون فيه الكلمة الفصل، للجيل الجديد، الذي سيتحمّل مسؤولية مُحاسبة من نهبوا وسرقوا.. ونكّلوا بالجزائر والجزائريين، ولهذه الأسباب ومن أجلها، لندع الرئيس بوتفليقة يُنهي مُهمّته كما خطّط لها، أمّا الغوغاء المُصاحبة للتغييرات والتي تُريد شخصَنة هذه الإستراتيجية، فستنتهي في مزبلة التاريخ. عبد القادر حبيبي محام وخرّيج معهد الدراسات الدبلوماسية والإستراتيجية بباريس

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى