أعمدة الرأي

عن الثقافة والحرب

عاش الإنسان القديم صراعاتٍ كثيرةٍ يمكنُ إجمالُها في مستويين اثنين؛ صراعُه مع الطبيعة، وهو الأعزل إلا من الوعي ودماغٍ فريد، مع كوارثها ومصاعبها وحيواناتها المفترسة. فأحدث هذا في نفسه الخوف وانعكس على كثير من معتقداته التي ابتكر فيها آلهةً تحميه وأخرى تعاديه. ولذا يمكنُ وصفَ هذا الصراع الأوَّل بأنَّه كان يحصل مع الطبيعة ومع ما وراء الطبيعة في آنٍ واحدٍ ضمن مسرح الخير والشَّرِّ. أمَّا صراعه الثاني، ولم يكنْ أخفّ حدَّةٍ، فهو مع أخيه الإنسان. وقد كانت خلفياته متعددة تحرِّكها الأرضُ والسماء، وتُنتجُ مجتمعةً ما هو أشدُّ خطرًا من الطبيعة:الحرب. لكنْ حين استقرَّ الإنسان في أمكنةٍ معينةٍ راح يصنع الاتفاقات المختلفة التي ستؤدي مع التراكم إلى الثقافة، وفي المدى البعيد إلى محاولة إغلاق باب الصراع مع الإنسان لتركيز الاهتمام على مجابهة الطبيعة من أجلِ تحقيق ما ترومه غريزة البقاء.

وإذ نتحدَّثُ عن عالمنا اليوم، ونحن نرى إلى تواصل صراع الإنسان مع أخيه وإن في أشكالٍ جديدة، نتساءلُ هل نجحتِ الثقافة حقًّا في مسعاها النبيل لبناء الحضارة والمحافظة على الحياة؟ أمْ أنَّها نجحتْ فقط في تسيير الصراع بما يخدمُ طرفا دون آخر؟ ليس خافيا على أحدٍ أنَّ الحرب لا تزال بطلة مسرح الحياة على هذا الكوكب، فبعد حربين عالميتين، ورغم سعي الإنسان إلى تقييد صراعاته بالقيم والقوانين الدوْلية، لا تزال تنشب الحروب لتؤكّد بأنَّ العقل البشري الذي وصل إلى هذه الحضارة العظيمة التي نعيشها اليوم لا يمكنه التخلِّي عن الحرب. ربما لأنَّ الغريزة الداروينية التي تسكنه تدفعه صوب ابتكارِ الصراعِ للتأكيد على حكمة طبيعية:البقاء للأقوى.

تختلف حروب اليوم عن حروبِ الأمس؛ ففي القديم كانت الحرب مباشرة وكان الصراع طبيعيًّا لا يحتاج للتبرير. لكنَّ حروب اليوم تتخذُ أشكالا كثيرة(سياسية واقتصادية، وأحيانا عسكرية) لكنّها مؤدْلجةٌ لدرجة تُدْخِل العقل في تناقض حين يُنتج الثقافة والحرب في آنٍ، وفي سخرية مؤلمة حين يبرر لأشكال العنف التي يمارسها على غيره من أبناء جنسه بحججٍ أبعد ما تكون عن غايات الحضارة. الإنسان اليوم يقتل أخاه الإنسان باسم الحريات والديمقراطية ورغبة الشعب ومحاربة الإرهاب وحماية المنجزات…إلخ. الإنسان يموت في عالمنا على يد أخيه الإنسان، لم تتغيَّر الحرب، تغيّرتْ أشكالُها وخلفياتُها فقط، لكنَّها مستمرةٌ في رسم وجه التاريخ بالأحمر القاني.

قد يقول أحدٌ إن الإنسان يموت منذ القديم، فلماذا انتقاد حروب اليوم؟ والإجابة أنَّ حرب اليوم يبرر لها العقل، لنجدَ أنفسنا أمام التناقضات الرهيبة؛ فالإنسان حامي الحياة هو نفسه تاجر السلاح، والإنسان الذي يبكي على أبناء دولته حين يموتون ويُقتلون هو نفسه الذي يستقبل أبطال بلاده حين يَقتلون أبناء دولةٍ أخرى. لقد أوصلنا صراع اليوم، بصورة مخزية إلى أدلجة المشاعر الإنسانية؛ وأدَّى إلى نوعٍ من الطبقية بين الناس، هناك بشر أعلى وبشر أدنى، بشر يعيشون الحياة ويستحقونها وآخرون ليس لهم منها إلا العويل والفقد.

صديقي القارئ؛ كم جسدا سوريا توَّاقا إلى الحياة أكل حياتَه البحر، كم طفلا بلا بسمة، كم عائلة استفاقت صباحا فلم تجدْ بعضها في العالم بسبب صاروخ أنزل على رؤوس أفرادها السقف، كم حبيبةً نامتْ تحلم بحبيبها ولم تخرجْ بعد من المنام لأنها دخلتْ مباشرة منه إلى الموت…كل هذا يجعل عضلة القلب تنقبضُ ويهدد بسكتة قلبيةٍ في زمن تحوَّل فيه الإنسانُ إلى تارميناتور بلا قلب. كل هذا يفجعنا في ثقافة انهزمتْ أمام البيولوجيا ولم تستطع إيقاف عجلة الحرب فابتكرتْ لها أغبى التبريرات، وفي الآن ذاته، أحرَّ التعازي لعوائل المقتولين أو المحروقين أو المشنوقين باسم حقوق الإنسان.

* محمد الأمين سعيدي، شاعر وأكاديمي جزائري.

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى