أعمدة الرأي

فرحة الباك وغمّة التوجيه الجامعي

لا يختلف في الجزائر اثنان – جاهلان كانا أم عاقلان – على الوجهة المنحدرة للتعليم بشكل عام و تدني مستوى التعليم العالي على وجه الخصوص ، و لعل معرفة الأسباب الحقيقية لهذا الواقع الأليم تأتي مع تشخيص شجاع و علمي لراهن التعليم ، و في مرحلة ثانية محاولة إيجاد العلاقة المنطقية من جهة بين مخرجات التعليم و سوق العمل  ، و من جهة أخرى بين السياسة التربوية و التعليمية و السياسة الاقتصادية للدولة و نظرتها للقطاعات المعنية بالتنمية و التي ستحتاج مستقبلا إلى نوعية معينة من اليد العاملة .

حينما ننظر إلى سياسة الدولة وهي تريد الخروج من قبضة التبعية لتذبذب أسعار النفط و تسعى إلى إيجاد المخرج لأزمها الهيكلية هذه عبر وضع خطط و برامج و رسم سياسات عامة تهدف إلى تنويع مصادر الدخل ، فمن الطبيعي أن يصاحب هذه النظرة الاقتصادية نظرة أخرى بنفس زاوية النظر و بالمتغيرات ذاتها نحو قطاعي التربية و التعليم العالي ، إذ لا يعقل أن يقترب عدد الذين يجتازون شهادة الباكالوريا من 700 ألف مترشح و عدد المتخرجين من مختلف الشعب الجامعية 120 خريج أغلبهم في الشعب الإنسانية و نصر على انتهاج نفس السياسات التعليمية التي فاقمت من البطالة و تسببت في تقلد المناصب الحساسة في الدولة و الإدارة من قبل أصحاب الكفاءات المحدودة الأمر الذي سيكون له ارتدادات خطيرة على نوعية الخدمة العمومية و تدني في معدلات مردودية القطاعات الإنتاجية إذا ما بقينا في هذه الوتيرة و لم نضع حدا لمسببات هذا المآل .

وحتى نعطي مثالا توضيحيا لما ذكرناه ، و نحن في أجواء ظهور نتائج البكالوريا و التوجيه الجامعي،  نعود إلى بداية المشكلة فيما يتعلق بتوجيه التلاميذ من مرحلة المتوسط و الانتقال إلى الثانوي أين ترتفع أسهم التخصصات العلمية ؛ الرياضيات و العلوم التجريبية و يقل الطلب على تخصصات الآداب و الفلسفة و اللغات التسيير و الاقتصاد ، لتجد التخصصات التقنية نفسها في حالة كساد حيث أن طبيعة التوجيه تفرض الاحتكام إلى قانوني العرض و الطلب ، غير أن هذا ليس مبررا كافيا لأن تترك وزارة التربية هذه ” السوق ” في حال الاشتغال الذاتي ، إذ يمكن التحكم في مخرجات التوجيه نحو الشعب الثانوية بناءا على احتياجات السوق و السياسة الاقتصادية للدولة كما بيناه سابقا ، فمن غير المعقول أن يتم توجيه أغلبية التلاميذ نحو الشعب العلمية و الأدبية ، لنجد أن القلة القليلة تتخصص في الشعب التقنية التي يفترض أنها خزان اليد العاملة المستقبلية التي ستحتاجها مختلف القطاعات الصناعية و الزراعية و الخدماتية التي تسعى الدولة لأن تكون بديلا عن قطاع المحروقات ، إذ يمكن لوزارة التربية أن تضع عددا محددا لمقاعد الشعب العلمية و الأدبية في مرحلة الثانوي ينتقل إليها التلاميذ النوابغ و ذوو المعدلات المرتفعة ، دون التفريق بين الشعب العلمية و الأدبية في معدلات الانتقال و تركها متساوية في التخصصين ، و أن تخصص أكثرية المقاعد الدراسية للشعب التقنية حيث تعمل على تطويرها و إدخال تخصصات جديدة تتواءم مع متطلبات سوق العمل و توجهات الدولة الاقتصادية .

بالانتقال إلى الجامعة – وفق هذا التصور – من المنطقي أن نجد عدد الطلبة العلميين مقاربا لعدد الطلبة الأدبيين ، و كلا التخصصين يشكل أقلية بالمقارنة لطلبة الشعب التقنية ، و هذا في حد ذاته يشكل ظاهرة صحية تخدم سياسات الدولة في ترقية الخدمات العمومية و تطوير القطاعات الانتاجية و مكافحة الفساد ، فعلى سبيل المثال فإن تخصصا حساسا مثل الحقوق الذي يضمن تخرج إطارات الدولة من مسؤولين سامين في الإدارة و قضاة و موثقين و محضرين قضائيين و محامين و إداريين و غيرهم لا تزال وزارة التعليم العالي تحتفظ بنفس معدل القبول للطلبة في هذا التخصص و هو عشرة من عشرين في شهادة الباكالوريا ، هذا بالإضافة إلى أن الأولوية في التوجه نحو شعبة الحقوق هو لحاملي باكالوريا آداب و فلسفة و لغات ، يعني نحن نتحدث عن التلاميذ الذين انتقلوا من مرحلة المتوسط إلى الثانوي بمعدلات لا تتعدى المتوسط  ، و لو أن الانتقال من المتوسط إلى الثانوي بالنسبة للشعب الأدبية كان بمعدلات مساوية لمعدلات الشعب العلمية لكان المستوى التعليمي للحائزين على الباكالوريا الأدبية عاليا ، و إذا ما قامت وزارة التعليم العالي باعتماد معدلات قبول للتوجه نحو شعبة الحقوق لا تقل عن أربعة عشر من عشرين – على سبيل المثال – لكان المستوى العلمي لخـريجي هذه الشعبة مرتفعا جدا و لأصبحت مردوديتهم في وظائفهم الحساسة كبيرة جدا و لانعكس ذلك بالإيجاب على الخدمة العمومية و لشهدنا معدلات للفساد و سوء التسيير من أدنى المعدلات عالميا و لأصبحت تقارير الشفافية الدولية تجعل من الجزائر في المراتب الأولى .

و إذا ما قسنا هذه المقاربة على بقية التخصصات في العلوم الإنسانية التي تشكل أغلبية خريجي الجامعات الجزائرية و بالتالي أغلبية البطالين لتحصلنا على نفس الانعكاسات الإيجابية التي بيناها فيما يتعلق بتخصص الحقوق ، و بهذا نساوي في الأهمية بين الطبيب و المتخصص في علم الاجتماع ، إذ لا يعقل أن نصر على إعطاء الأهمية للطبيب الذي يعالج الإنسان و نغفل دور المتخصص الاجتماعي الذي يعالج المجتمع و يشخص أزماته و مشكلاته الحضارية و يضع الحلول لنهضته و إقلاعه ، و هنا يأتي دور الدولة في استيعاب هذه النوعية من اليد العاملة عبر إتاحة الفرصة لتأسيس مراكز دراسات و بحوث في العلوم الاجتماعية و الاقتصادية تأخذ على عاتقها تشريح المجتمع الجزائري و إصدار بيانات و تقارير حول قضايا و مشكلات على غرار البطالة و الهجرة و النمو الديموغرافي و علاقة ذلك بالمسائل الاقتصادية ،  إضافة إلى سبر للآراء فيما يتعلق بتوجهات المجتمع الجزائري سياسيا و ثقافيا و دينيا ، و كل هذه التقارير يمكن استغلالها من طرف الإدارات المختلفة محليا و حكوميا في مجال رسم السياسات العامة و اتخاذ القرارات لمواجهة الأزمات الاجتماعية و الاقتصادية ، و بهذا يمكن استحداث مجالات جديدة لتوفير مناصب شغل غير تقليدية كالتعليم و الإدارة الذين أصبحا في حال تشبع .

بقي أمر مهم يتعلق بفئة الشعب التقنية الذين يشكلون الأغلبية ، هنا ينبغي لوزارة التعليم العالي أن تحدّ من عدد الجامعات التي تدرس تخصصات العلوم الإنسانية و التي تدرس في أغـلب الجامعات ، و تحصرها في خمس أو ست جامعات فقط بناء على تقسيم جهوي ، و التي يكون دورها تخريج النخب الإدارية و التسييرية و القضائية و في مجال الدراسات و البحوث الاجتماعية و الاقتصادية  ،  و تفتح المجال لدراسة التخصصات التطبيقية و التقنية في كل الجامعات ليتوجه نحوها الحاصلون على باكالوريا تقني و هم بأعداد كبيرة بالإضافة إلى خريجي مؤسسات التكوين المهني التي ينبغي تطوير التكوين على مستواها بما يتواءم و متطلبات التحول الاقتصادي للبلاد و توسيع عددها ليصبح في كل قرية و حي فتساهم في حل انعكاسات التسرب المدرسي و القضاء على الآفات الاجتماعية بفاعلية أكبر ، فتكون المحصلة عدد معتبر من مهندسين و تقنيين سامين و تقنيين في مختلف التخصصات التقنية التي تحتاجها سوق العمل و تتفق مع سياسة الدولة الاقتصادية في الاكتفاء الذاتي و رفع حجم الصادرات و الخروج من التبعية للنفط و تنويع مصادر الدخل و  محاربة البطالة ، كما أن بوسع هذه الفئة أن تخلق الشغل لنفسها في إطار العمل الحر دون الحاجة لأن تنتظر مسابقات التوظيف العمومية .

 

متعلقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى